الثلاثاء، 17 يونيو 2014

أموال «تغسل» بمياه الأخيار

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«الذي يؤمن بأن المال يفعل كل شيء، قد يفعل أي شيء من أجل المال».
بنجامين فرانكلين كبير مؤسسي الولايات المتحدة

كتب: محمد كركوتــــي


كأن العالم ينقصه المزيد من الأدوات الفاسدة لصناعة المزيد من الأموال القذرة! إنها تسود الاقتصاد العالمي، وتشكل اقتصاداً موازياً، لم تنفع كل الحروب التي قامت (ولا تزال) للوصول به إلى الحد الأدنى المطلوب على الأقل. إنه اقتصاد يتوسع كلما ضاقت حوله الآفاق. تتحقق انتصارات عليه هنا وأخرى هناك، غير أنها تبقى محدودة. فأدواته متجددة مبتكرة، ووسائل أعدائه بقيت دون تغيير تقريباً، منذ أن ظهر على الساحة، وبات يمثل محركاً رئيساً. حتى عندما اعتمدت أساليب جديدة في الحرب عليه، تمكن القائمون على الاقتصاد القذر، من فك “شيفرات” الأسلحة، وطوعوا آلياته ضدها. هناك تعاون دولي بلا شك، لكن هناك أيضاً تعاونا دوليا من حكومات مارقة، مع منتجي الأموال القذرة. ولم تنفع في الكثير من الحالات العقوبات التي تفرض عليها.
غسل الأموال عبر المراهنات الرياضية ليس عملية جديدة، بل يعود إلى أوائل القرن الماضي. وازدهر بصورة أساسية قديما في الولايات المتحدة، لينتشر بصور مروعة في بقية أنحاء العالم، وفي مقدمتها بلدان القارة الأوروبية. الجديد أنه بات يستحوذ على نسبة متعاظمة من حجم الأموال القذرة عالميا، حتى إنه في بعض البلدان، بات يحقق عوائد كبيرة جدا إلى درجة فاقت عوائد المخدرات. مع ضرورة الإشارة إلى أن العقوبات التي قد تفرض على الذين يضبطون في قطاع المراهنات، لا ترقى إلى مستوى طبيعة الجريمة. خصوصاً أن غسل الأموال غير الشرعية، يتم عن طريق أدوات غير شرعية أيضاً، وهي تلك المرتبطة بطبيعة المراهنات التي تتم “تحت الطاولة”.
الدراسة الجديدة التي صدرت في فرنسا أخيرا، تظهر الحجم الهائل للجريمة المنظمة التي تستخدم في غسل الأموال من خلال المراهنات الرياضية. والدراسة أعدها باحثون في جامعة السوربون، على مدى عامين، خلصت إلى نتيجة مرعبة، وهي أن 80 في المائة من الرهانات الرياضية في العالم غير شرعية. وبعيدا عن التفاصيل، فقد ثبت أن كرة القدم ورياضة الكريكت هما أكثر الرياضات عرضة للتلاعب في نتائج الرهانات، تليهما رياضات التنس والسلة ثم تنس الريشة وسباق السيارات. بالطبع شنت مكاتب الرهانات الكبرى المعروفة، حملة شعواء على جامعة السوربون، منتقدين الطريقة التي اعتمد عليها الباحثون في الوصول إلى الاستنتاجات النهائية. لكن الحقيقة، تكمن في أنه في العام الماضي فقط، شهد العالم آلاف الحالات من الغش في هذا المجال، وهي الحالات التي تمت ضبطها، ما يعني أن هناك آلافا أخرى منها تتم على مدار الساعة حول العالم.
المهم في هذه المسألة، أن الجريمة فيها ترتكب مرتين. مرة بضخ الأموال القذرة أصلاً بغية تنظيفها، ومرة عن طريق الغش الرياضي نفسه. وماذا أيضا؟ تغلغل الجريمة المنظمة في قطاع يفترض أنه من القطاعات التي تساهم في تكريس الأخلاقيات العامة والخاصة. وتقدر الأموال التي يتم تبييضها سنويا عن طريق الغش الرياضي بأكثر من100 مليار يورو (هناك تقديرات دولية بوصول الرقم إلى 189 مليار دولار. اللجنة الأولمبية الدولية تتحدث عن 140 مليار دولار). وهو رقم هائل، يضاف إلى خزانة الجريمة المنظمة، والمنظمات المتعاونة معها، إلى جانب الحكومات المارقة المنتشرة في العالم. وإذا ما اعتمدنا على التقديرات الدولية، فإن أموال المراهنات القذرة تشكل12 في المائة من حجم الأموال التي تم تبييضها في الأسواق الناشئة في عام 2011، التي تصل إلى 947 مليار دولار! علينا أن نتخيل الحجم الكلي لهذه الأموال، بإضافة مناطق أخرى في العالم!
كل هذه الأموال “تُغسل بمياه” الأخيار والمحتاجين. هذه هي الحقيقة الثابتة. هناك أموال يتم تبييضها عن طريق مشاريع وهمية، أو مصارف قذرة في العمق ونظيفة في الخارج، أو بشراء عقارات أعلى من قيمتها الحقيقية، أو بإطلاق منتجعات ومؤسسات خاسرة أساسا، إلى آخر الوسائل المعروفة وغير المعروفة. ويتم تبييض الأموال عبر المراهنات عن طريق رشوة الحكام واللاعبين وحراس المرمى في مباريات كرة القدم، لمنعهم (كما يقول المهتمون) من إطلاق صافراتهم أو تسجيل الأهداف أو التصدي للكرات! والغريب بالفعل، أن بعض الجهات الأوروبية غير المتورطة في المراهنات المشينة، تقف ضد أي تغيير في القوانين الأوروبية، لجعل الرقابة أشد على عمليات المراهنة! ما يفسح المجال لمزيد من الأسئلة، حول دور الأموال القذرة في بعض اقتصادات الدول الراشدة نفسها.
لا شك في أن تبييض الأموال عبر المراهنات الرياضية سيتواصل، وسيحقق زخما جديدا في الأعوام المقبلة. فحتى الآن لم يتم اتخاذ قرارات حاسمة قاطعة في هذا المجال في جميع البلدان التي تجيز المراهنات في كل شيء، بما في ذلك اسم المولود الجديد للأمير وليم نجل ولي العهد البريطاني. ولا شك أيضا، أن أموال الجريمة المنظمة ستتعاظم. وليس مهما كثيرا (مثلا) خسارة منتخب إيطاليا أو البرازيل أو نادي ريال مدريد أو برشلونة. المهم أن تكون الخسارة رابحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق