الاثنين، 16 يونيو 2014

إلى وكالات التصنيف.. البحر لم يكن «طحينة»

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"أن تستحق التقدير ولا تحصل عليه، أفضل من أن تحصل عليه دون استحقاق"
مارك توين، أديب أمريكي

كتب: محمد كركوتـــي

مهما كانت جودة الإصلاحات التي أحدثتها وكالات التصنيف الائتماني العالمية على "سلوكياتها" وأساليب عملها، ستظل تحتل مكاناً بارزاً في "التاريخ الاقتصادي"، على أنها كانت آلية من الآليات التي ضربت الاقتصاد العالمي، وأوقعته في أزمة فاقت كل الأزمات عنفاً وخراباً وبطشاً وهماً. أزمة، لا تزال آثارها ماثلة على الساحة بعد أكثر من خمس سنوات على انفجارها. لقد عملت هذه الوكالات "البحر طحينة". فكل المؤسسات والشركات أداؤها جيد! إلى درجة أنها انهارت في لمح البصر! والمثير للسخرية المُرة، أن مصرفاً كـ "ليمان براذرز" الأمريكي تمتع بتصنيف عال جداً من قبل هذه الوكالات، وكان أول وأسرع المؤسسات المالية التي انهارت في عام 2008. والأمر نفسه انطبق على كل المؤسسات، التي لم تجد في خزائنها في اليوم التالي للانفجار دولاراً واحداً، ولجأت إلى الحكومات لإنقاذها. لقد عادت إلى التأميم!!
حسنت وكالات التصنيف من "سلوكياتها"، ولكن "أدبياتها" ظلت كما هي، وآليات عملها بقيت كما كانت منذ تأسيسها. ورغم ذلك، ورغم "التحسين".. استمرت الشكوك والظنون حولها. بل إن الضرب فيها مستمر من قبل عديد من الجهات، بما فيها تلك التي تسعى لإيجاد صيغة مثلى لقطاع التصنيف الائتماني العالمي. فتحسين "السلوكيات" لم يوفر لها الغطاء المطلوب. وبقي السؤال القديم ــ الجديد مطروحا على الساحة. هل يمكن لوكالات التصنيف القيام بدور نزيه في مهماتها؟ ومنه يُشتق آخر: كيف يمكن أن تصل إلى المستوى المقبول في هذا المجال؟ وهل هناك آليات لم تستخدم في السابق، يمكن استخدامها الآن لتحقيق الهدف؟ هناك أسئلة كثيرة في هذا المجال، تطرح جميعها تحت عنوان عريض "الشك ما زال قائماً في وكالات التصنيف". وعلى هذا الأساس، يطرح موضوع العثور عن بديل نزيه بمعايير لا تشبه المعايير الحالية لهذه الوكالات.
يتمثل العامل الأهم الذي يُبقي الشكوك حول الوكالات المذكورة، أن هذه الأخيرة تقوم بتصنيف المؤسسات ولا سيما تلك المعنية بالسندات، ليس تبرعاً، ولكن بمقابل مالي كـ "أتعاب". أي أن المؤسسات تدفع كي تُصَنَف. وهنا يطرح السؤال التلقائي: هل هناك ضمانات لتصنيف حيادي نزيه، طالما أن الجهة المصنَفة تدفع للجهة المصنفِة أتعابها؟! بعض الذين يكرهون وكالات التصنيف تاريخياً، يشبهون هذه العلاقة، بتلك التي تجمع محام وموكله. فهذا الأخير يدفع في النهاية أتعاب المحامي، الذي سيواصل الدفاع عن موكله بكل قواه، حتى لو كانت كل الأدلة ضده. فلا يمكن الاطمئنان لطبيعة العلاقة بين المؤسسات ووكالات التصنيف. والوكالات لن تعمل أساساً إلا بالحصول على الأجور من المؤسسات. ولذلك، ترى جهات عدة، أنه لا بد من صيغة أخرى، توفر أعلى جودة للتصنيف الائتماني.
تطرح مؤسسة "بيرتلسمان" الألمانية حلاً يبدو واقعياً للغاية، يتمثل في تأسيس وكالة تصنيف ائتماني عالمية غير ربحية، يتم تمويلها كوقف مستدام. واقترحت ضخ رأسمال أولي قوامه 400 مليون دولار، يتم تحصيله من مجموعة واسعة من المانحين، بما فيها الحكومات وهيئات عالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والمجتمع المدني بمؤسساته ومنظماته غير الحكومية وصناعة الخدمات المالية. وهذا الاقتراح (في الواقع) ليس صعباً في تحويله إلى مشروع حقيقي، سيحل كل المشكلات العالقة. فوكالة كهذه تتمتع بالاستقلالية التامة، كما أنها (وهذا النقطة المهمة)، لا تحصل على أجورها من المؤسسات التي يجب أن تخضع للتصنيف، الأمر الذي يمنحها الحرية الكاملة لطرح تصنيفات واقعية بعيدة عن أي التباسات أو شكوك. وستكون أكثر قبولاً (بنتائجها) من جانب المستثمرين والجهات المعنية بالاستثمار في المؤسسات والشركات المصنَفة.
وباستعراض المشهد العام، نجد هناك طلباً بالفعل على وكالات التصنيف. وهذه الأخيرة شهدت في الآونة الأخيرة ازدهاراً قوياً. وهذا يعني أن هناك بيئة حاضنة إيجابية لاقتراح إنشاء وكالة تصنيف مستقلة تماماً. وقد استعرضت وثيقة وضعتها مؤسسة "بيرتلسمان" الخطوط العريضة لهيكلية الحوكمة المعقدة الخاصة بوكالة التصنيف العالمية غير الربحية، بغرض بث الثقة في استقلالية الوكالة من خلال وضع حد بين وظيفة التحليل والممولين. وهذا هو المحور الأهم "فصل التحليل عن الجهات الممولة له". وبالطبع، أطلقت وكالات التصنيف المعروفة مثل "ستاندرد آند بورز" و"فيتش" و"موديز" وغيرها حملة شعواء ضد اقتراح إنشاء وكالة مستقلة، إلى درجة أن وصفها موريتز كريمر، الرئيس التنفيذي للتصنيفات السيادية في ستاندراد آند بورز بأنها "أشبه بوحدة استخبارات اقتصادية".
ستحارب وكالات التصنيف التقليدية أي تحول في قطاعها، بصرف النظر عن أهميته. فهي بذلك تدافع عن "رزقها"، ولذلك فإنها تقوم بحملتها هذه، من منطلق أن أي تصنيف سيصدر عن الوكالة المقترحة لن يكون مفيداً بالنسبة للمستثمرين. وهذا بالطبع ليس صحيحاً. لو وجدت وكالات التصنيف مصدر رزق آخر، ستكون الشكوك حول عملها أقل حدة. غير أن تركيبتها منذ نشأتها، تقوم على المبدأ الثابت "ادفع كي أصنفك".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق