الاثنين، 16 يونيو 2014

نمو تخريبي للجريمة المنظمة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"المجرمون لا يموتون على أيدي القانون، بل على أيدي غيرهم من المجرمين"
جورج برنارد شو - أديب إيرلندي



كتب: محمد كركوتـــي

الأموال القذرة المشينة متعددة المصادر. وإذا كانت تتوالد كما السرطان الخبيث، فإنها تولِد مصادر جديدة، ليس فقط من ناحية زخم الأموال، بل أيضاً من جهة تأمين أكبر وسائل الهروب الممكنة من السلطات المخولة بملاحقتها. هناك "قمم" تُعقد لهذا الغرض على مستوى المنظمات الإجرامية المختلفة، إلى جانب تبادل المعلومات الكفيلة بتأمين الأعمال المشينة التي تقوم بها، طالما أن ذلك لا يدخل ضمن "تضارب المصالح". ولهذا السبب أُطلق عليها "المنظمات الإجرامية المنظمة". وهي مطمئنة تماماً. فكل الجهود التي تبذلها الحكومات في الدول الراشدة، لم تحقق غاياتها في الحد حراك الجريمة المنظمة. تنجح مرة وتفشل عشرات المرات. وهذا ما أدى إلى تطوير هذا الحراك التخريبي، والوصول به إلى أفضل مستوى ممكن، بمعيار الإجرام. دون أن ننسى، ما توفره بعض الحكومات المارقة لهذه المنظمات من تسهيلات وحتى الحماية، وفي بعضها تتمتع بحصانة تفوق الحصانة الدبلوماسية قوة ومكانة.
التقارير المختلفة تتحدث عن أن حجم تجارة الجرائم المنظمة يبلغ سنوياً أكثر من 133 مليار دولار. وكان منها تقرير لمجلة "الإيكونومست" البريطانية الرصينة، الذي تحدثت فيه عن بعض المصادر المتجددة لهذه التجارة، من بينها الاتجار بقرون حيوان الكركدن والكافيار، وهي تجارة أكثر أمناً وربحاً. كيف؟ يصل سعر قرن الكركدن إلى 50 ألف دولار لكل كيلوجرام، أي أعلى من قيمة الذهب أو الكوكايين. وفي حال تم إلقاء القبض على من يحاول تهريب كيلو جرام من الكوكايين في الولايات المتحدة، قد يواجه حكماً بالسجن يصل إلى 40 سنة، وغرامة بقيمة خمسة ملايين دولار. على العكس من ذلك، قضت محكمة نيويورك على أحد مهربي قرن كركدن بالسجن 14 شهراً فقط. ويرى المختصون، أن الجريمة المنظمة باتت عالمية ومتنوعة منذ سنوات طويلة. وبحسب هؤلاء، فبعد أن كانت المافيات تتكون من عرق واحد، أصبحت الآن عبارة عن شبكة مكونة من أعراق عدة، تعمل ما بين الحدود.
غير أن هذا النوع من الجريمة والمنظمات التي تخصصت بها، لا يشكل المصيبة الكبرى. وحتى المصادر الجديدة للجريمة، ليست بوحشية ودناءة المصادر التقليدية لها. فهذه الأخيرة تمتد من الاتجار بالبشر والسلاح إلى سرقة المال العام، إلى الفساد والرشا، منتقلة لنهب المساعدات، فضلاً عن السمسرة غير المشروعة، والمخدرات، والمقامرة، والعوائد القذرة الناجمة عن غسيل عوائد أشد قذارة. أمام هذا النوع من الجرائم، لا تبدو عمليات تهريب السجائر وقرون الكركدن وأنياب الأفيال وجلود الفهود والكافيار، والأموال الناتجة عنها أشد فتكاً. إنها جرائم بلا شك، ولكن تأثيراتها المباشرة على الشعوب (ولا سيما المحتاجة منها)، تكون أقل من تأثيرات الأشكال الأولى للجريمة المنظمة. فعلى سبيل المثال، تؤكد منظمة النزاهة المالية العالمية، على أن الدول النامية خسرت نحو تريليون دولار بسبب الاحتيال والفساد والصفقات التجارية المشبوهة في 2011 وهو ما يتجاوز حجم المساعدات الأجنبية التي تلقتها.
المشكلة الكبرى، أن العصابات المنظمة دخلت في حراك الإنتاج الشرعي، بل وحتى في قطاعات الزراعة والإنتاج الحيواني والدواء، أي أنها صارت جزءاً من نسيج الاقتصادات المحلية. وهي مستعدة للدخول في أي قطاع يوفر لها العوائد التي تسعى إليها. صحيح أنها لا تستطيع الدخول في غمار القطاعات الشرعية في البلدان الراشدة، إلا أن الأمر ليس كذلك في البلدان الأخرى وغالبيتها العظمى تنتمي إلى العالم النامي. وحتى في الدول التي تمتلك أنظمة قضائية وشرطية قوية، فإنها تقف عاجزة أمام المجرمين الأذكياء الذين يعملون عبر الحدود. فهؤلاء غالباً ما تصعب محاكمتهم. والسبب أنهم يستفيدون في الفجوات الموجودة في التشريعات نفسها، إضافة إلى الثغرات الكامنة في آليات التنفيذ. إن هؤلاء المجرمين، يخفون أعمالهم المشينة في سلسلة من الأساليب المعقّدة.
هذا في الواقع، ما وفر للجريمة المنظمة ديمومة بل ومساحات لتطوير أعمالها التخريبية. فإذا كانت الدول القادرة لا تستطيع أن تجلب قادة هذه المنظمات إلى العدالة، علينا أن نتخيل الوضيعة في بلدان محكومة بسلطات مشتركة بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع هذه المنظمات. ولو كان القاضي معرضا للقتل إذا ما تولى قضية من قضايا المنظمات المذكورة في المجتمعات الراشدة، فإنه معرض لمكافأة مالية كبيرة في البلدان المارقة. هذا إذا وصلت قضايا العصابات إلى المحاكم أصلاً! إن الجريمة المنظمة ليست جديدة، ولكنها تتجدد، عن طريق "اختراع" مصادر أخرى وتنمية ما هو متوافر لديها، إضافة إلى ابتكار وسائل معقدة للنجاة الدائمة. ويظهر بوضوح أن المجرمين القائمين عليها، ما زالوا يسبقون السلطات التي تتعقبهم منذ عقود بخطوات طويلة! ولا تبدو في الأفق أي مؤشرات على ضرب هذه المنظمات بما يكفي للحد من أعمالها التخريبية. وفي الوقت الذي ينمو فيه الاقتصاد العالمي بصورة متواضعة، وأحياناً مضطربة، تحقق الجريمة المنظمة نمواً هائلاً.. وهي تنمو حتى في عز الكساد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق