الثلاثاء، 17 يونيو 2014

قنبلة الغذاء البشرية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





 
«الجوع ليس قابلاً للنقاش»
هاري هوبكينز - وزير التجارة الأمريكي الأسبق




كتب: محمد كركوتــــي

الفارق بين الجوع وسوء التغذية، أن الأول يُميت الآن، والآخر يُميت لاحقاً. البعض يعتقد أن الجوع أفضل! لأن المعاناة الناجمة عنه تنتهي بمساحة زمنية قصيرة، تمثل ''رأفة قاتلة'' في حين أن سوء التغذية يوفر أطول مدة للمعاناة. أي أنه ''قاتل تدريجي''، وطبعاً ''تسلسلي''. وفي كل الأحوال، هما عار متجدد على الإنسانية، وتحديداً على الدول التي تضع المخططات تلو الأخرى، لماذا؟ لـ ''رفعة'' البشرية، في أن يكون للإنسان حد أدنى للعيش، يتدبر فيه أمر كرامته وإنسانيته. هذه المخططات، لا تختلف كثيراً، عن باب جميل مزخرف، منقوش ومحفور بمهارة عالية، لمنزل عامر بالخراب والمصائب، والويلات المتجددة. لو تحولت كلمات ومواقف السياسيين ''الكبار''، حول ضرورة صيانة الإنسانية، إلى مال يُصرف وتنمية واقعية، لتحققت كل الأهداف قبل مواعيدها، ولوفر المخططون أوقاتهم لعمل شيء آخر. ولا بأس لو استثمروها في إجازات فقط.
اليوم، توصل المختصون إلى ماذا؟ إلى أن الارتفاعات الكبيرة في أسعار المواد الغذائية، توقف التقدم العالمي في خفض معدلات وفيات الأطفال والأمهات. ويمكن لأي إنسان بسيط يجلس على ''ترعة'' في إحدى القرى النائية في أفقر دولة في العالم، أن يتوصل إلى هذه النتيجة، دون الحاجة إلى ''مفكري'' منظمة الغذاء العالمية، ولا ''مبدعي'' البنك وصندوق النقد الدوليين، ولا لخبراء ''ملهَمين''. فارتفاع أسعار الغذاء، يهدد مباشرة حياة أكثر من 165 مليون طفل حول العالم، خصوصاً أولئك الذين يعيشون (إن اكتسبوا هذه الصفة) في البلدان الفقيرة. البنك الدولي ''يُشكر'' على دراسته الأخيرة، التي أكد فيها، أن تمويله لبرامج الغذاء سيزيد إلى 600 مليون دولار أمريكي في عامي 2013 و 2014، من 230 مليوناً في 2011 و 2012، على أن يوزع هذه الأموال، عبر المؤسسة الدولية للتنمية التابعة له، خصوصاً في إفريقيا وجنوب آسيا.
لا يمكن بالطبع تحميل المؤسسات الدولية مسؤولية استفحال هذه الكارثة. فهي تعمل وفق الموارد التي تصلها من الدول المعنية بهذا الأمر، فضلاً عن أن هذه الدول هي التي تسيطر على قرارات هذه المؤسسات، كما تسيطر على قرارات المنظمات والهيئات الدولية الأخرى. وعلى هذا الأساس، ليس هناك مخرج واقعي، إلا بتحويل الأزمة من قيد المؤسسات المذكورة إلى عهدة الحكومات الكبرى مباشرة. فكل المؤشرات، تدل على أن المصيبة لا تتضخم فحسب، بل توسع نطاق انتشارها، حتى في الدول التي تشهد نمواً اقتصادياً عالياً. وطبقاً لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو).. فحتى مع ارتفاع مداخيل الدول، فإن تحسن التغذية لا يحدث تلقائياً. وقد أعطت الهند مثالاً على ذلك. ففي هذا البلد نما الاقتصاد ثلاثة أضعاف في الفترة الواقعة بين عامي 1990 و2005، غير أن 42 في المائة من الأطفال دون الخامسة، كانوا أقل من الوزن الصحي في العام الماضي، وهو المعدل نفسه الذي سُجل قبل خمس سنوات!
أسعار الغذاء ستواصل الارتفاع في العامين الجاري والمقبل، في الوقت الذي ينخفض فيه المخزون الغذائي، بسبب تراجع الحراك الزراعي في الكثير من البلدان. وهذا يعني أن الأسعار ستمضي إلى مزيد من الارتفاع، خصوصاً مع نقص المحاصيل. وفي تقرير (مرعب بالفعل) لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بالاشتراك مع (الفاو)، فإن الصين (أكبر بلدان العالم من حيث عدد السكان) ستستورد مزيداً من اللحوم والبذور الزيتية في السنوات العشر المقبلة. والسبب بسيط وخطير، يكمن في أن وتيرة الاستهلاك فاقت نمو الإنتاج، الأمر الذي سيسهم مباشرة في ارتفاع أسعار الغذاء على الساحة العالمية. ويعطي التقرير صورة قاتمة، عندما يؤكد أن ارتفاع التكاليف وتزايد صعوبة استغلال الموارد، وتنامي الضغوط البيئية، ستعوق الإنتاج الزراعي، في السنوات المتبقية من العقد الحالي. والأهم من هذا كله، فإن متوسط النمو سيبلغ 1.5 في المائة سنوياً بين عامي 2013 و2022 انخفاضا من 2.1 في المائة في العقد السابق. وفي كل الأحوال، ستبقى المخزونات الغذائية في الدول المستهلكة والمنتجة متدنية، وهذا يعني أن قوة على هذه الأرض، لا تستطيع السيطرة على الأسعار، ولا حتى ''تلطيف'' تقلباتها.
قبل أكثر من عامين كتبت مقالاً بعنوان ''قنبلة الغذاء النووية''. غير أن تصاعد أزمة الغذاء وأسعاره، وتراجع نمو الإنتاج الزراعي، ونقص المخزونات، كفيلة بتحويل هذه ''القنبلة'' إلى ''هيدروجينية بشرية''، ستنفجر في العالم أجمع. التوقعات تجمع، على أن أسعار الغذاء سترتفع في السنوات المقبلة ما بين 10 و40 في المائة. وهذه النسب ترفع تلقائياً نسب الذين لا يملكون قوت يومهم. فالذي كان يملك ما يضمن له يوماً آخر في الحياة، سينضم إلى أولئك الذين ليسوا على يقين بأنهم سيشهدون فجراً جديداً آخر. والنظام الاقتصادي العالمي الجديد، الذي لا يزال في مرحلة التشكل، لن يتحقق بالصورة التي يحتاج إليها العالم فعلاً، إذا ما أغفل هول أزمة الغذاء العالمية. فسوء تشكيل هذا النظام، لن يرفع معدلات سوء التغذية، بل سيأكل التغذية نفسها، دون أن يتمكن من هضمها.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق