الثلاثاء، 17 يونيو 2014

هلع المصارف من عقوبات مستحقة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





"المصرفي هو الشخص الذي يقرضك مظلة في يوم مشمس، ويطلب إرجاعها في لحظة سقوط الأمطار"
مارك توين أديب أمريكي

كتب: محمد كركوتــــي

تمر المصارف الكبرى والمتوسطة في الدول الغربية على وجه الخصوص بحالة هلع شديد، لم تشهدها منذ انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية قبل ست سنوات. وهي حالة تشكل امتداداً طبيعياً للأخلاقيات المصرفية الغائبة عن هذه المؤسسات المالية. وتمثل أيضا استحقاقاً عليها أن تواجهه. وبصيغة أوضح، عليها أن تتحمل عواقبه وعقوباته ومعاييره وقراراته وأحكامه. ظن القائمون على بعض هذه المصارف، أن الكوارث التي مرت بها من جراء الأزمة الكبرى كافية. وأن الأزمة (وآثارها التخريبية) ستبرر السلوكيات المصرفية غير اللائقة، أو في أسوأ الأحوال، ستخفف الغضب من جانب السلطات عليها. واعتقد هؤلاء، أنه في زمن الطوارئ، تباح المحظورات! ألم تستخدم (المصارف) أموال المخدرات القذرة خلال الأزمة المشار إليها، في محاولات يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟!
لكن الأمر ليس بهذه السهولة أو السذاجة. ما كان سارياً قبل الأزمة وخلالها، لم يعد له مكان على الساحة المصرفية. وسلوكيات الأمس المشينة، باتت اليوم تهدد وجود المؤسسات المالية ككيانات مصرفية. وأصبحت خطيرة إلى درجة لا يمكن التهاون فيها، أو التعامل المرن معها. باختصار، لم تعد العيون مغمضة، بل صارت قوتها ضعف ما كانت عليه في السابق. إنه استكمال لعملية إصلاح كانت مستحقة منذ أكثر من ثلاثة عقود. صحيح أنها أتت بفعل أزمة، وليس وفق المعايير الواجبة، لكنها ماضية حتى النهاية للوصول إلى الهدف. والهدف واضح. كل مصرف (أو مؤسسة مالية) يرتكب مخالفات أو تجاوزات سيدفع الثمن غالياً جداً، بما في ذلك إمكانية إغلاقه إلى الأبد. ولذلك ينتشر الهلع والخوف في أجواء المؤسسات المالية، التي تعرف أنها ارتكبت خطايا أكثر مما ارتكبت من أخطاء، وأن أيام الحساب حُددت لكل مصرف متورط.
لا يزال المال غير الأخلاقي يمر عبر المؤسسات المالية، بل إنه تجاوز في بعض المؤسسات المال الأخلاقي نفسه. وهذه مسألة تحتاج إلى سنوات طويلة وقرارات قاطعة من قبل السلطات الرقابية والحكومية المختلفة. اليوم، المسألة السائدة، هي تلك المتعلقة بانتهاك قرارات الحظر المفروضة غربياً على دول مثل إيران والسودان وسورية، وحتى بعض المنظمات الإرهابية، كحزب الله اللبناني - الإيراني. تضاف إليها قضية الملاذات الآمنة للأموال الهاربة من الضرائب في بلادها، وتحديداً من الولايات المتحدة. غالبية المؤسسات المالية الكبرى متورطة في هذه المسألة وتلك القضية. وفي ظل تفعيل التحرك ضدها، زادت المخاطر عليها. لقد بدأت الولايات المتحدة الحملة القوية بهذا الصدد، وتفكر دول أخرى (منها بريطانيا)، في شن حملة مشابهة في أقرب فرصة. وإذا كانت هناك مصارف "تخصصت" في انتهاك قرارات الحظر، وأخرى ركزت في الأموال الهاربة من الضرائب، فإن هناك مصارف مارست المخالفتين معاً.
بعض المصارف اختصرت الطريق وفتحت ملفاتها، أملاً في غرامات مخففة أو بعقوبات يمكن أن تتحملها. وبعضها بدأ سلسلة من المفاوضات. لكن البعض الآخر لا يزال يعاند. بل إن مصرفاً كـ "بي إن بي باريبا" الفرنسي الكبير، تمكن من تحويل مشكلته مع الولايات المتحدة بخصوص انتهاكات قرارات الحظر، إلى مشكلة بين هذه الأخيرة وفرنسا، خصوصاً والحديث يجري عن غرامة قد تصل إلى 10 مليارات دولار، كافية "لقصم ظهر" أي مصرف. وقد بلغ الأمر حداً، أن ربطت الحكومة الفرنسية (نظرياً في الوقت الراهن) المسألة بمستقبل العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة، بحيث كان موضوع المصرف المذكور على رأس جدول المحادثات الثنائية الأخيرة التي جرت بين رئيسي البلدين. غير أنه لا توجد أي مؤشرات على تراجع من الجانب الأمريكي. فالمصرف ارتكب بالفعل انتهاكات كبيرة جداً لحساب إيران والسودان، ولا بأس من منظمة إرهابية هنا وأخرى هناك.
تقوم المصارف الكبرى والمتوسطة حالياً بإعادة تقييم الوضع العام. فتلك التي لم يأت دورها، بدأت بالفعل سلسلة من الاتصالات للتوصل إلى صيغة حل يضمن لها دفع الحد الأدنى من الغرامات، بعيداً عن القضاء وساحاته. وهناك عشرات من المصارف السويسرية توصلت بالفعل إلى اتفاق مع واشنطن في الأشهر الماضية حيال الملاذات الضريبة الآمنة، بما في ذلك فتح ملفات عملائها بالكامل للسلطات الأمريكية. على الساحة المصرفية حالياً معايير جديدة، وحملات متجددة، تعيد الحد الأدنى المطلوب من النزاهة إلى القطاع المصرفي العالمي. أما مسألة النزاهة الكاملة، أو المرتفعة، فهي قضية ستبقى بعيدة عن هذا القطاع، لأن الأدوات التصحيحية المصرفية لم تستكمل بعد، والعمل على إحداثها جار.
إن زيادة المال الأخلاقي في المؤسسات المالية، يحتاج أيضاً إلى زمن يوازي الزمن الذي قضم فيه المال غير الأخلاقي الأموال المشروعة. وهذه في النهاية قضية، تفوق انتهاكات العقوبات والتهرب الضريبي بشاعة وعنفاً وضرراً. إنها ترتبط بكل الموبقات، من المخدرات إلى الاتجار بالبشر إلى سرقة المال العام، إلى التهريب، والتزييف وغيرها. هي قضية لا تختص بحكومة ومصرف، أو حكومة وأخرى، بل تتعلق مباشرة بالوجدان الإنساني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق