الجمعة، 25 يناير 2013

البقاليات الفضائيات التحريضية

(المقال خاص بمجلة "جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج")








"الحياة لا تقلد الفن. إنها تقلد القنوات التلفزيونية السيئة"

وودي ألان ممثل أمريكي






كتب: محمد كركوتـــي

حسناً، بات إطلاق قناة فضائية عربية، أرخص تكلفة (طبعاً مالياً فقط)، من إطلاق أي وسيلة إعلامية أخرى، وفي أفضل الأحوال يوازيها من حيث التكاليف والإنفاق. فالفضاء واسع، والمؤسسات التي توفر خدماتها لهذه القنوات في النقل والبث، جاهزة طالما أن الفواتير تسدد في وقتها، في ظل مغريات كثيرة لاستقطاب المزيد من القنوات، بصرف النظر عن المعايير (بل والأخلاقيات) التي ينبغي أن تحاكي محتوى الفضائيات وأهدافها المعلنة والسرية. ومع إنخفاض تكاليف إطلاق قناة فضائية عربية، ترتفع بصورة مريعة التكاليف الناجمة عما تقدمه على المجتمع كله، بكل شرائحه وانتماءاته. وعلى وجه الخصوص، تلك "البقاليات" الفضائية التحريضية، التي تتعاطى مع الدين كمادة وحيدة في "خدماتها" المشينة، بأسلوب حاسم قاطع لا جدال فيه! في الواقع تقدم هذه الفضائيات مادتها كمُسَلَمات، لا تقبل الجدل، ولا النقاش، ولا حتى المراجعة في معلومة هنا وأخرى هناك. فما تقوله هو الحق المولود من الحقيقة! وغير ذلك لا قيمة له!
تجاوزت فضائيات التحريض، بعددها وقبحها، فضائيات الشعوذة والسحر، وتلك التي تخصصت في "حل" المشاكل المستحيلة عبر الشاشة، ولا بأس عبر الهاتف، التي سادت الفضاء العربي في الأعوام الأخيرة من العقد الماضي. وبدأت تنافس إلى حد كبير (في العدد والضرر) فضائيات الحظ والألغاز، وتلك التي تمنحك جائزة مالية كبيرة، إذا استطعت أن تحدد فروقات صورة واحدة في نسختين، لهيفاء وهبي أو نانسي عجرم أو جينفر لوبيز أو أنجلينا جولي.. وغيرهن. فضائيات التحريض هذه تقترب بسرعة فائقة (من حيث العدد أيضاً) من فضائيات الغناء المريع، التي تبقى أضرارها (رغم بشاعتها الفنية، وملوثاتها الصوتية) أقل حدة وخراباً من تلك التي تحرض على الكراهية والأذى والقطيعة، بل وحتى القتل. إنها مصيبة متعاظمة، لا تزال أقوى بكثير من الحملة (أو الحملات) ضدها، ومن جهود الصادقين فعلاً لقطع بثها، أو وضع حد لقباحاتها. فهذا الانتشار السرطاني لها، يتحول شيئاً فشيئاً، إلى جزء أصيل من الحراك التلفزيوني الفضائي العربي. ومعه أصبحت الكراهية وجهة نظر، والحقد رأي، والقتل حق، بدلاً من التسامح والمودة، وحق الفرد (أياً كان) في العيش.
أصحاب فضائيات التحريض، هم الوحيدون الذين لا يرمون زبالتهم جانباً، بل يقدمونها على شاشاتهم المشينة. ولو طبقت عليهم المعايير والأنظمة الخاصة بالبث التلفزيوني في الدول الراشدة، لما بقيت قناة واحدة منها على الهواء، هذا إن لم يقدم أصحابها إلى المحاكم، بتهم شتى، أقلها نشر وبث الكراهية. علماً بأنه، لايزال هناك عدد كبير من العرب، يعتقدون بأن الدول الغربية (على سبيل المثال)، لا تطبق معايير صارمة على البث التلفزيوني. ولو قورنت معاييرها بالفعل مع المعايير العربية في هذا المجال، لوجدوا أنها أقسى وأقوى، وأشد صرامة، وأن العقوبات التي تُفرض على المخالفين، هي أيضاً كذلك، أشد وأقوى وأقسى. لا توجد حلول وسط. فالهيئات والجمعيات الرقابية الحكومية وغير الحكومية، لا تساوم في أمر تعتبره محورياً للحياة العامة والمجتمع.
ماذا تقدم فضائيات التحريض؟ الطائفية بأبشع صورها وأشكالها بل وألفاظها. وتقدم أيضاً المادة الكفيلة بما يمكن وصفه "شقاق المذاهب"، إلى جانب الحض الممنهج على التكفير، وإقصاء الأفكار التي ليس بالضرورة أن تكون معارضة لها، بل لا تتفق معها بشكل متطابق! تعتمد التجهيل استراتيجية لها، وتتعاطى مع التفكير كشيء مدنس ملوث، بل بعضها ينظر إليه كسرطان ينبغي استئصاله، ومسؤولية المتلقي (إذا كان مؤمناً صالحاً!!) أن يُجري عملية الاستئصال هذه! إنها ببساطة مجموعة من الاستديوهات تبث أبشع مادة بأقبح صورة ممكنة، تصل إلى كل المتابعين لها من كل الشرائح المجتمعية، بمن فيها شريحة الأطفال التي تحظى بكمية هائلة من المواد التلفزيونية القاتلة.
أمام هذه الحقائق، تبدو الفضائيات الأخرى (مهما كانت أضرارها) أقل أذى. وتنطلق الأسئلة في الوقت نفسه، حول الأسباب التي تجعل فضائيات التحريض مستمرة ومتواصلة ومتوالدة ومؤثرة. صحيح أنه لا ينقص أصحاب هذه الفضائيات التمويل. فتمويل الكراهية دائماً متوفر بدون حساب، ودعم الحرب ضد التسامح لا يتراجع. لكن الصحيح أيضاً، أن هؤلاء لا يملكون كامل الأدوات الفنية لتحقيق أهدافهم بفضايات مريعة. وهنا تتحول الأسئلة إلى مؤسسات الاتصالات الفضائية العربية، التي توفر لكل القنوات في المنطقة إمكانية البث والوصول إلى كل المناطق العربية قاطبة. ولعل السؤال الأهم الذي يطرح على الساحة الآن هو: إذا استطاعت هذه المؤسسات أن توقف فضائيات الشعوذة والسحر وجلب الحظ وقراءة الكف والبلورة، وهي بذلك قامت بواجبها الاجتماعي الإنساني، والتزمت برسالة الإعلام الأخلاقية، فضلا عن شرف المهنة نفسها.. فلماذا لا تزال فضائيات التحريض على الهواء؟!
لا يمكن أن يكون المبرر لاستمرار هذه الفضائيات، أن مؤسسات الاتصالات الفضائية تسعى إلى الربح المادي، ورفع مستوى المبيعات، وتحقيق موازنة مالية جيدة نهاية العام. فهذه ليست سلع تموينية أو استهلاكية مختلفة. إنها "سلع" لا تخضع لمتطلبات السوق، ولا لاحتياجات الفرد، ولا لحراك التجارة. إنها ببساطة "سلع" حساسة تنشر الأوبئة الاجتماعية والأخلاقية المختلفة. وعلى هذا الأساس، ينبغي التعاطي معها، وبسرعة توازي سرعة انتشارها. فأي تباطؤ في هذا المجال، يحقق هدفاً مريعاً ومخرِباً في قلب المجتمع العربي. دون أن ننسى أن الأهداف كثيرة، وجاهزة للتسديد.
المطلوب الآن (وليس وغداً)، التقدم بأسرع ما يمكن لوقف هذه الفضائيات السرطانية التحريضية الناشرة للأوبئة بقوة الكراهية والحقد. وإلا فإننا سنشهد انتصاراً، قد تصعب مواجهته في المستقبل، لجهات تسعى إلى الاستحواذ على المجتمع بكل ما تملكه من إمكانيات. وإذا ما تم ذلك فعلاً، فإن هذه الجهات قد تستطيع يوماً( لن يكون بعيداً) أن تملك كل الأدوات. إننا اليوم في ظل معركة، ليس حرباً، ومن الأفضل أن تنتهي وهي بهذه المرحلة لا بعدها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق