الثلاثاء، 1 يناير 2013

أوروبا وحديث الديون

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




''لا أعتقد أن أحداً منا يرغب في وضع مصيرنا بأيدي الدول الكبرى الآن''
جيرتي زالم وزير المالية الهولندي السابق


كتب: محمد كركوتـــي


في أوروبا، لم تعد مادة الحديث الاقتصادي حكراً على الدول الغارقة في ديونها، والدول التي تحاول انتشالها من هذه الديون. ولم تعد تتركز على كيفية الإنقاذ، وحجم الإهانات التي تتلقاها الدول المُنقَذة من الدول المنقِذة، وما إذا كان من الأفضل التفكير بـ ''احتلال'' الدول التي تعيش تحت أكوام الديون، أو طردها نهائياً من منطقة اليورو، وإذا استدعى الأمر، طردها من الاتحاد الأوروبي. المناقشات والحوارات والأحاديث شملت في أوروبا كل الاحتمالات، بما فيها تلك ''الفانتازية''، كأن ترسل أنجيلا ميركل قوات ألمانية مدعومة بفرنسية (وليس العكس) لاحتلال اليونان. أو أن تعين ألمانيا (باعتبارها المنقذ الأكبر ويكاد يكون الأوحد) مندوباً ساميا لها يحكم الدول التي تقوم بإنقاذها مالياً. أو انسحاب ألمانيا نفسها، ومعها فرنسا من الاتحاد الأوروبي. بل وطرد بريطانيا من هذا الاتحاد، لأنها لا تزال ترفض دخول اليورو، وبالتالي لا مجال للجوء إليها للمساعدة المباشرة في إنقاذ العملة الأوروبية.
المهم.. أن ''فانتازيا'' الحلول، ومعها الحلول الواقعية، لم تعد تشكل محوراً اقتصادياً وحيداً في القارة العجوز، للحديث والجدل والأفكار والاقتراحات، بل بات الانكماش المتصاعد في كل الدول الأوروبية، هو المحور الرئيس في هذا المجال، خصوصاً مع بروز الاعترافات تلو الأخرى من الحكومات القائمة، بأن هذا الانكماش سيمضي قدماً، لينتقل من العام الجاري إلى العام الذي يليه. أي أن عام 2013 سينقل موروثات العام الجاري، بكل مآسيها الاقتصادية. بينما لا أحد يتوقع ألا تنتقل هذه الموروثات إلى الأعوام المتبقية من العقد الحالي. فالانكماش ينتشر من جنوب القارة الأوروبية إلى شمالها، وينال ليس فقط من الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي، بل تلك ''المرابطة'' جغرافياً على حدوده. دون أن ننسى، أن بعضها يستند اقتصادياً على دول الاتحاد.
في أوروبا، يكون وزير المالية عادة أكثر الشخصيات السياسية المكروهة في الحكومة (أي حكومة). والأسباب معروفة وبسيطة. فمشاريع القرارات التي تعتمدها الحكومات حيال الضرائب والخدمات وواجبات المواطن الاقتصادية، تأتي من مكاتب وزراء المالية. اليوم لا يوجد مسؤول واحد محبوب في أي حكومة أوروبية. فوزير الشباب والرياضة ''يتمتع'' بالكراهية نفسها التي تُقذَف إلى زميله وزير المالية. وهكذا، حتى تنال من الجميع، وتصل إلى رئيسي الوزراء والدولة. الكراهية الشعبية للسياسيين في السلطة، باتت تعم كل الدول الأوروبية. لا يوجد من يمكنه الادعاء بتمثيل شعبي قوي. وغالبية الأحزاب الحاكمة في القارة، وصلت إلى الحكم، في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، لأنه لا يمكن ترك السلطة فارغة، وليس حباً لهذا الحزب أو ذاك. والحق أن المرحلة الشعبية، ولت في أوروبا والعالم أجمع، خصوصاً عندما باتت الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، تختص بلقمة العيش وبالمأوى والتعليم مباشرة.
ووسط هذا الحال، لا يملك أي مسؤول في القارة، أن يعلن عن خبر اقتصادي سار، أو في أفضل الأحوال، خبر اقتصادي غير مؤذ. فالذي يتصدر المشهد هو تراجع النمو وانتشار الكساد وتعاظم الانكماش. نقول الانكماش؟ نعم، فقد نال من الجميع. فلا غرابة، أن يعلن وزير الاقتصاد الألماني قبل شهرين تقريباً، أن النمو الاقتصادي سيتباطأ في الربع الأول من عام 2013. وفي الواقع فإن مؤشرات كثيرة، تدل على أن هذا النمو سيواصل انكماشه، على مدى العام المذكور، إلا إذا حدثت ''معجزات'' اقتصادية. لكن هذه ''المعجزات'' تشبه في إمكانية تحققها، وصول مخلوقات فضائية إلى كوكب الأرض. فإذا كانت الدول الأوروبية الكبرى، بحاجة ماسة إلى تحفيز النمو، فلا مجال للحديث عن هذا النمو في الدول الأصغر، بل من المضحك الحديث عنه في الدول التي تعيش في بحار الديون العميقة.
كل أوروبا.. حبيسة الأزمة بأشكال مختلفة، وبوتيرة متفاوتة. لكن الحق، أن الأزمة هي التي تشكل المشهد الاقتصادي العام. لا يمكن إضافة عامل آخر واحد إلى هذا المشهد. ومن هنا، تتدافع المؤسسات الدولية من أجل تذكير الأوروبيين بالتحفيز، أكثر من الإنقاذ. والأوروبيون لم ينسوا التحفيز، ولا يعشقون الإنقاذ، لكنهم لا يملكون ما يمكن التحفيز به أساساً. ومن هنا، نجد في القارة الأوروبية الاقتصاد ينكمش رويداً رويداً، والبطالة ترتفع بصورة متسارعة، وتتراجع قيمة اليورو بشكل لا يتناسب مع سمعة العملة نفسها. ومن هنا نستطيع أن نفهم، إعلان المفوضية الأوروبية الذي أطلق في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بأن أوروبا كلها مهددة بمرحلة جديدة من الانكماش. بل مضت أبعد من ذلك عندما حذرت من دخول الاقتصاد العالمي ''دوامة'' جديدة، نتيجة أزمة الديون التي تعصف بدول منطقة ''اليورو''.
لا يتبادل السياسيون الأوروبيون التهنئة بصوت عال بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة. بل إن التهنئة التقليدية بصيغتها ''كل عام وأنتم بخير''، لم تعد تتوافق مع المشهد العام. فالخير الذي لم يأت في عام 2012 وقبله وقبله.. لن يكون حاضراً في عام 2013. وفي الواقع، سأكون من المستغربين، إذا ما حضر في السنوات القليلة المقبلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق