الثلاثاء، 1 يناير 2013

في الأموال القذرة .. ابحث عن المنظفين

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«رجال العصابات لا يسألون»

ليل وين مغني راب أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

سواء استعرت الحرب ضد الأموال القذرة و''مصابغها'' في العالم، أو لم تستعر. وسواء حققت الحرب بعض الانتصارات أو لم تحقق، فإن هذه الأموال الناجمة عن كل ما هو مخز للبشرية، ومشين لأي حكومة كانت، تشكل بحد ذاتها اقتصاداً قوياً نشيطاً ''متوالداً''. ومن المريع أنه يستمر في قوته و''توالده''، حتى عندما تلعب العواصف باقتصادات الدول الكبرى والصغرى. فيكفي التذكير هنا، أن الأموال القذرة أسهمت في إنقاذ مصارف ''محترمة'' في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. مصارف ليست في بلدان مارقة تتخذ من الزوايا المجهولة والمعلومة للمحيطات والغابات مواقع لها، بل في دول تصنع القرار الاقتصادي العالمي، وأخرى تشارك في صنعه. الأموال القذرة هذه، تتصدر (في حجمها) قائمة الناتج المحلي السنوي لأكثر من 30 دولة، عضو في الأمم المتحدة، وتشكل ما بين 2 و4 في المائة من الناتج العالمي، وتتجاوز الحدود، و''تقفز'' في الجيوب، و''تركن'' في الخزائن. ورغم الخراب الذي تنشره على الساحة العالمية، فإن آليات مقاومتها، لا تزال دون المستوى، بما في ذلك تلك ''المتطورة'' التي أطلقتها الدول الكبرى، في أعقاب الأزمة الكبرى.
والحق، أن المصيبة لا تنحصر بـ''الإنتاج'' المستدام لهذه الأموال بكل الأشكال الممكنة وغير الممكنة، بقدر ما تنحصر في الأوعية التي تتوافر لها. أين؟ في الدول التي أعلنت الحرب عليها! فلا يمكن تبييض وبعد ذلك ''تخزين'' أو استثمار هذه الأموال في الدول ذات الاقتصادات المتواضعة (وهي غالباً المصدر الرئيس لجني الأموال القذرة). ولأن الأمر كذلك، فهي تتجه بكل الطرق، إلى الدول التي يسهل لاقتصاداتها استيعابها. فلا غرابة من إعلان منظمة النزاهة العالمية التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، بأن الدول النامية خسرت نحو ستة آلاف مليار دولار أمريكي، في غضون عشر سنوات، من جراء الفساد والجريمة والتهرب الضريبي. ولو أضفنا إليها تجارة المخدرات والرقيق وسرقة المال العام بصورة مباشرة، والسمسرة غير المشروعة، إضافة إلى أموال المنظمات الإرهابية، علينا أن نتخيل الحجم الكلي للأموال القذرة على مستوى العالم.
لا يمكن تحديد حجم الأموال القذرة التي تلف العالم، وتبيض بكل الطرق، وتدخل في الاقتصاد العالمي. والتقدير المتفق عليه عالمياً، بما في ذلك التقديرات السنوية لصندوق النقد الدولي، والمنظمات الدولية الأخرى المعنية، يبقى في حدود 3500 مليار دولار. لكن لو أخذنا النمو السنوي لهذه الأموال والذي يقدر ما بين 10 و11 في المائة، يكون التقدير العالمي هذا متواضعا جداً. وإذا أضفنا الأموال القذرة الناتجة عن ماذا؟ عن المساعدات التي تقدمها الدول الكبرى، لبعض الدول النامية، فإن ذلك يمثل دافعاً جديداً لإعادة تقييم وتقدير حجم الأموال المشينة حول العالم. فقد ثبت - على سبيل المثال - أن المساعدات غير المضبوطة وغير الخاضعة للمراقبة، بمنزلة مصنع آخر للأموال القذرة. وتقوم الدول الكبرى حالياً، بإعادة صياغة طرق تقديم هذه المساعدات. فلا يعقل أن تسهم الدول التي أعلنت الحرب على الأموال القذرة، مباشرة بـ ''إنتاجها''!
إن الدول النامية تنزف أصلاً المزيد من الأموال الخاصة بها، ومن السخرية أن تنزف حتى أموال المساعدات والمعونات المختلفة. وفي ظل غياب إرادة دولية في هذا المجال، فإن النزيف المالي سيتواصل، بل وسيأخذ أشكالاً أكثر ضرراً وخراباً. وأياً كانت أشكال التطور و''الابتكار'' في ''إنتاج'' الأموال القذرة، فإن الحقيقة تبقى هي.. هي. على الدول الكبرى ''المحارِبة'' للأموال المشينة والمنهوبة، أن تركز أكثر على ''المنظفين'' فيها، وأن تبتكر أساليب جديدة أكثر تطوراً، لملاحقة هذه الأموال في الشركات والمؤسسات والمصارف التي تعمل بها، بل والتابعة لها. ففي مثل هذه الحالات، المنظِف- المبيِض هو الذي يساعد في الكشف عن الجريمة، خصوصاً أن أحداً لا ينكر زخم تدفقات الأموال القذرة على هذه الدول. فلا تزال قضايا المصارف الغربية الكبرى المتورطة بتبييض الأموال (إتش إس بي سي، وستاندر تشارتز، وباركليز، وحتى بنك أوف أمريكا.. وغيرها) ماثلة على الساحة. هذه المصارف وغيرها، لم تسهم في تبييض أموال منهوبة من شعوب تستحقها الآن وليس غداً، بل أسهمت بصورة دنيئة في تبييض أموال منظمات إرهابية تقتل الأبرياء، وتنشر الخراب في كل مكان تحل فيه.
لم يعد مقبولاً التستر وراء صعوبة ملاحقة الأموال القذرة. والحرب عليها ينبغي أن تكون شاملة. وعلى الدول التي تسعى حقاً لوضع حد لهذا النزيف المالي العالمي، أن تفكر جدياً ليس فقط بمحاربة ''منتجي'' هذه الأموال ومسوقيهم في أراضيها، بل في العمل على سن قوانين دولية جديدة، لا تستهدف الفساد في دول العالم أجمع بصيغته العامة، بل بصيغه الخاصة المختلفة. وهذا يتطلب جهداً كبيراً، مع إرادة حاسمة، في زمن بات فيه الدولار المنهوب ثروة حقيقية، لمواطنين في دول ومناطق، لا يعرفون ما إذا كانوا سيشهدون اليوم التالي في حياتهم. إنها مسألة أخلاقية إنسانية. إنها مسألة حق من الواجب على الجميع أن يجعلوه سائداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق