الثلاثاء، 5 فبراير 2013

فلـ «يقتصد» مرسي في توقعاته الاقتصادية


(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






«التأخر واحد من أخطر أشكال الإنكار»
نورثكوت باركنسون - مؤرخ وروائي بريطاني



كتب: محمد كركوتـــي


وجب علي الاعتراف بأن التصريحات المتجددة للرئيس المصري محمد مرسي وأركان نظامه المعينين و''المتعاونين''، لا زالت تجرني إلى مواصلة الكتابة حول الاقتصاد المصري. والحق، أنها تستفزني للمواصلة، بل وتُشعل محفزات الواجب في هذا المجال، لماذا؟ لأن في هذه التصريحات من الأوهام ما يكفي لإثارة السخرية، وفيها من الأحلام ما يوفر سلسلة من ''الكوابيس'' الاقتصادية، وفيها من التخبط ما يجعل المتابع متسائلاً عن جديتها. وفيها أيضاً من ''البركات'' الاقتصادية ما يدفع للزهول، وفيها من الإنكار ما يؤهل الناكرين للعرض على أطباء نفسانيين. ويبدو أن مرسي لم يمر في حياته على ما قاله مارك توين الأديب الأمريكي قبل عقود: ''إن الإنكار ليس نهراً يجري في مصر''، ونسي (أو لم يطلع.. لا فرق) أن الإنكار كان ''المعول'' المحوري الفظيع للأزمة الاقتصادية العالمية كلها، التي قهرت دولاً لا تُقهر، وأن تحصين النفس بتصريحات وهمية المحتوى، لا يمكن أن يعمر حاجزاً دفاعياً مطلوباً.
من نصدق؟ مرسي أم البنك الدولي؟ مرسي أم وكالات التصنيف؟ مرسي أم بيانات البنك المركزي المصري نفسه؟ مرسي الذي قال يوماً: إن بيع السندات ''حاجة كويسة''، أم المستثمرين الهاربين بأموالهم خارج مصر؟ مرسي أم التسلسل المريع لانخفاض قيمة الجنيه المصري؟ مرسي أم تأخر رواتب الموظفين والمتقاعدين؟ مرسي أم لوائح الأسعار المرتفعة للمواد الاستهلاكية الأساسية؟ مرسي أم حجم الرغيف الذي يتعرض لـ ''الاختصار''؟ هناك من يقول- ممن يؤمنون بالأمل (فقط) دون عمل- إن من مثل هذه المقارنات لا تترك مجالاً للأمل، ولكنهم لا يعرفون أن الأمل نفسه هو شكل من أشكال إنكار الحقيقة، الذي يصدر عن مرسي وأركان نظامه، ليست سوى جرعات تخدير منتهية الصلاحية، وبالتالي بلا مفعول. وكل ما هو مطلوب من الرئيس المصري، أن يقدم رؤية اقتصادية حقيقية، ويستغل أن أحداً لن يطالبه ببناء اقتصاد وطني جديد خلال أسابيع أو أشهر. فالكل يعلم أن في مصر أزمات اقتصادية ترقى إلى مستوى الخراب.
ليس من مصلحة مصر أن يتوقع مرسي. فالعالم يرى نتائج توقعاته يومياً في مصر ميدانياً. والأمر ينطبق على ''آماله'' أيضاً. فقد توقع (حديثاً) أن ينتج الاقتصاد المصري 750 ألف وظيفة جديدة على أساس سنوي، وأمل (مع توقعه) أن يحقق هذا الاقتصاد نمواً يصل إلى 5,5 في المائة في العام المقبل، وبين 7 و8 في المائة في العام الذي يليه! بينما تنحصر توقعات البنك الدولي للنمو بـ 2,6 في المائة في العام الجاري، و3,8 في المائة للعام المقبل، و4,7 في المائة لعام 2015. المشكلة هنا، أن توقعاته وآماله هذه، لا تستند إلى أي عامل من العوامل الاقتصادية السائدة على الساحة. كان على الرئيس المصري، أن يراجع الأسباب التي دفعت وكالة التصنيف الائتماني العالمية ''فيتش'' إلى تخفيض تصنيف مصر في هذا المجال إلى مستوى (بي)، لكي ''يقتصد'' بتوقعاته وآماله. الأسباب ببساطة هي وفق التسلسل التالي: الاضطراب السياسي.. الضغوط على الاحتياطي النقدي.. تدهور الوضع المالي.. هروب رؤوس الأموال. وهذه الأسباب اتفقت عليها وكالتا التصنيف العالميتان ''موديز'' و''ستاندر آند بورز''، مع ضرورة الإشارة إلى أن الدين العام بلغ 1240 مليار جنيه مع نهاية السنة المالية، حسب البنك المركزي المصري.
لو تأخر الفرد (أي فرد) في فهم مصائبه الخاصة، فإن الأضرار الناجمة عن ذلك، لن تصيب غيره. ولكن إذا ما تأخر حاكم دولة، في فهم مصائب بلاده، فإننا أمام كارثة لا تصيب الأمة فحسب، بل تجعلها جزءاً أصيلاً من الحياة العامة. إن العجز في الاقتصاد المصري بشكل عام، لن يتقلص ويتراجع، إلا بتراجع العجز في فهم المشاكل والمصائب، التي يواجهها. وهذا لن يتحقق في سياق الذهنية والسلوكيات السائدة في ''مصنع'' القرارات الوطنية. هل يُعقل أن تكون مصر بلا رؤية أو مخططات اقتصادية واضحة وواقعية؟! هل يمكن منح الثقة لمرسي وأركان حكمه المعينين و''المتعاونين''، لإيمانهم الشديد بأن ''البركات الاقتصادية'' ستساهم في بناء اقتصاد جديد، تحتاجه البلاد، أكثر من أي احتياجات أخرى؟! وبعد أن تحولت التصريحات الاقتصادية (والسياسية أيضاً) لهؤلاء إلى ''اكتشات تلفزيونية'' ترفيهية، هل يوجد من يتوقع خيراً للاقتصاد المصري؟!
لا أحد يُحمّل مرسي مسؤولية الخراب الاقتصادي. فهو خراب مزمن كان رئيساً في زمن المخلوع حسني مبارك. ولكن الرئيس المصري ''الموجود'' يتحمل المسؤولية الكاملة على الخراب الذي يسود ساحة الإنقاذ. ولأن الأمر كذلك، فقد دخل التاريخ كأول رئيس يُحاسب مبكراً، في حين كان باستطاعته أن يكون أكثر الرؤساء في التاريخ تمتعاً بالتعاطف والتعاون، ليس فقط لورثته الثقيلة، بل لوجود حب طبيعي لمصر، لا يرتبط بوجود هذا الرئيس أو ذاك. ومن مصائب مرسي، أنه فشل في استثمار هذا الحب، بل نقله في الواقع إلى حالة توجس مريعة من المحبين أنفسهم! لقد نهب النظام الحاكم، أحلى مقدرات مصر. الحب المطلق لها.

هناك تعليق واحد: