الاثنين، 21 يناير 2013

تصنيف وكالات التصنيف!

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«أن تستحق التقدير ولا تحصل عليه أفضل من أن تحصل عليه دون استحقاق»
مارك توين - أديب أمريكي


كتب: محمد كركوتــي


نعم، كانت وكالات التصنيف الكبرى والمتوسطة من أبطال الأزمة الاقتصادية العالمية. قد لا تصل إلى ''نجومية'' آلان جرينسبان رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق، أو جورج بوش الابن، أو حاكم المصرف المركزي في آيسلندا. لكن كل واحدة منها قامت بدور ''بطولي'' لم يسبق أن قامت بمثله في التاريخ، علماً أنها لن تتمكن من لعب نفس الدور لاحقاً.. لقد انتهى ''المهرجان''. في كتابي الأول الذي صدر عام 2009 بعنوان ''في الأزمة''، خصصت صفحات مطولة لمصائب وكالات التصنيف وآفاتها في الحراك الاقتصادي العالمي. فقد اعتبرت مهمتها الأساسية أن ''تعمل من البحر طحينة''، ولم يلبث الاقتصاد العالمي إلا أن غرق. ولا يهم إن غرق في ''الطحينة'' أو ''الزفت'' أو المحيطات، المهم أنه أصبح غريقاً يكافح لرفع رأسه على السطح. يأخذ نفساً ليغرق من جديد في مأساة اقتصادية نادرة بكل المقاييس.
بعد انفجار الأزمة، حمّل رؤساء المؤسسات والشركات والمصارف الكبرى وكالات التصنيف مسؤوليتها في سياق تبرير فشلهم في قراءة متوازنة وواقعية للحراك الاقتصادي العالمي. وبمعنى أدق، تبرير فشلهم في قيادة مؤسساتهم. بل وجد السياسيون (الفاشلون أيضاً) فرصة مواتية لهم لتحميل هذه الوكالات المسؤولية، في محاولات بائسة تدعو إلى السخرية. فإن وجد مَنْ يتفهم بعضاً من اتهامات المؤسسات للوكالات، فمن المستحيل العثور على جانب واحد يمكن إجهاد النفس في تفهمه من اتهامات السياسيين الموجهة للوكالات نفسها. فهؤلاء هم أصحاب ''المعاول'' الفاعلة والمحورية التي أنتجت الأزمة، وهم الذين أفسحوا المجال لوكالات التصنيف التي عملت مثل شركات الديكور المتخصصة في تجميل المنازل من الخارج، بصرف النظر عن حجم وفداحة الخراب في الداخل! كل متورط في الأزمة أراد أن يرمي حملها وآثامها على الآخر. أراد المتورطون أن يهربوا من التاريخ و''محكمته''، أو على الأقل أن يكونوا شهوداً فقط فيها!
والمصيبة أن وكالات التصنيف هذه فهمت الدرس أكثر مما فهمته الحكومات، ومعها ''الفلول'' الباقية في الشركات والمؤسسات الكبرى. فحسّنت من أدائها، في محاولات لبناء مصداقيتها الجديدة، بعيداً عن المجاملات المدفوعة القيمة، ممن؟ من الشركات والمؤسسات حتى الحكومات الخاضعة لتصنيفها. الأمر لم يعد الآن ''ادفع قسطاً تقفز درجة''. فقد بات على الساعين للقفز درجة أو درجات القيام بذلك وفق قدراتهم الحقيقية. ومع ذلك، ظهرت دعاوى قضائية في الولايات المتحدة الأمريكية ضد وكالات التصنيف، تحمّلها مسؤولية تضليل المستثمرين، لا سيما في نطاق مدى أمان أداء ديون عالية المخاطر قامت بتصنيفها. ويبدو واضحاً أن النظام القضائي ماض حتى النهاية في هذه الدعاوى رغم محاولات وكالات التصنيف المستهدفة إسقاطها. صحيح أن هذه الوكالات لا تزال في مرحلة الإصلاح الذاتي، لكن الصحيح أيضاً أن تتحمّل كل الأطراف المعنية في التصنيف المسؤولية، بمن في ذلك المستثمرون أنفسهم. فالمستشار مهما علا شأنه، لا يكون عادة صاحب القرار النهائي. ورغم أنني من المشككين الدائمين بوكالات التصنيف، فإن الأضرار التي قد تنجم عن تقييماتها ينبغي أن يتحمّلها مَن صدّقها، وعمل على أساس محتواها، دون أن يلجأ إلى دراسة شاملة للمعطيات وطبيعة الحراك الاستثماري. الأمر يتطلب التعاطي الواقعي للوضع، والابتعاد عن الأوهام وأحلام الأموال الوفيرة التي قد تمطر بصرف النظر عن مصادرها.
هذه القضية التي لا تبدو لها نهاية حاسمة، تستدعي التفكير في جدوى وجود وكالات تصنيف لوكالات التصنيف، رغم أنه من المفترض أن الأزمة الاقتصادية الكبرى أفرزت تلقائياً ثقافة جديدة في التعاطي مع وكالات التصنيف، وأزالت الكثير من رواسب فهم التعامل مع ''منتجات'' هذه الوكالات، لا سيما ''المنتجات الوهمية'' التي كانت تنشرها في الأرجاء. وحتى لو تم بالفعل وجود وكالات لتصنيف الوكالات! فإن ذلك لن يغير من الأمر شيئاً، إذا لم تنتشر حقاً الثقافة الجديدة في هذا المجال. ثقافة التعاطي مع الوكالات كجهات استشارية فقط. وإذا ما وجد عملاؤها تدني مستوى خدماتها أو تضاربها أو عدم واقعية معلوماتها، فالخطوة الطبيعية هي ببساطة التوقف عن التعامل معها. وهذه الثقافة تحتم أيضاً على متلقي خدمات وكالات التصنيف ألا يسهم في فسادها برفع مستوى مكافأته المالية لها، لتقدم له المعلومات حسب ما يحب لا وفق الواقع على الأرض.
والحقيقة أن الفساد الذي مرت به وكالات التصنيف قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، كان من نتاجها ونتاج عملائها أيضاً. فإذا ما تحددت المهام، وعرف كل طرف دوره الخاص؛ فإن كثيراً من الخلل (الذي كان والذي لا يزال بعض منه على الساحة) يتعدل تلقائياً. إن تصنيف وكالات التصنيف لا يمكن أن ينجح من خلال وكالات أخرى، بل عن طريق تحديد جودة الوكالة من خلال جودة تقييماتها، ودون تكليفها بمسؤوليات ليست من اختصاصاتها، ومن غير تحميلها إخفاقات أطراف يفترض أنها تستنير فقط بما تقدمه الوكالات، لا أن تمضي في تطبيق أعمى لما يصدر عنها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق