الأحد، 26 أغسطس 2012

مصارف للغسل والتبييض و«الكي» والتعليق

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''المكاسب والأرباح حلوة.. حتى لو أتت عن طريق الخداع''
سوفوكليس أديب إغريقي

كتب: محمد كركوتــــي
ترتكب المصارف الكبرى جرائم و''فظائع'' بوزنها، وتلك الصغرى جرائمها بحجمها. وتركيبة المصارف (بصورة عامة) غريبة، ويبدو أنها ستظل حاملة لغرابتها. فالمؤسسات المالية الوهمية تنتج مصائب حقيقية، وهي الوحيدة التي لا يفرز فيها الوهم وهما، إلا عند الضحية (الضحايا). فلا غرابة إذن.. من أن عدد الذين يخشون المصارف في العالم أجمع، يزيد أضعاف أضعاف أولئك الذين يحبونها. وإذا كان ''الحب'' والخشية منها المصارف ينسحب على الأفراد، فهو أيضا يصيب الحكومات نفسها، التي من المفترض أن تشكل مصدر خوف وخشية (وحتى رعب) للمصارف! ومع ذلك، لا يوجد شيء اسمه ''عار مصرفي''، هناك ''اعتذار مصرفي'' غالبا ما يكون مقبولا من الجهة المتضررة. وفي أحسن الأحوال، يتكلل الاعتذار بغرامة مالية، وهي في معظم الأحيان لا تشكل عبئا على المصرف، الذي عادة ما يدفع من ''الجمل إذنه'' لا بدنه، ومن ''الفيل ذيله''، ومن ''الديناصور ظفره''! ولأن العقاب لا يكون على قدر هول الفعل، فالمصارف تحتال وتختلس وتتجاوز وتخرق القوانين، بحرية وسرية. إرهاب، مخدرات، تجارة بشر، غسيل أموال، تبقى أعمال ''مشروعة'' إلى أن تنكشف. وكم من هذه الأعمال بقيت في ملاذ السرية ''الناجحة''؟
من يملك القدرة على كتم ذهوله، من اتهام هيئة الخدمات المالية في ولاية نيويورك الأميركية، لمصرف ''ستاندارد تشارترد'' البريطاني، بإخفائه صفقات لمن؟ لإيران، بقيمة ماذا؟ بـ 250 مليار دولار أميركي! وماذا فعل هذا المصرف أيضا؟ ترك النظام المالي الأمريكي هشا أمام الإرهابيين، ومعهم مهربو الأسلحة والمخدرات والأنظمة السياسية الفاسدة! وكم كانت أرباح المصرف نفسه؟ مئات الملايين من الدولارات. كل هذا يجري، والدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تفرض عقوبات تلو الأخرى على النظام الملالي في إيران، بعد أن رفض على مدى سنوات طويلة، أن تكون بلاده جزءا طبيعيا من منظومة المجتمع الدولي. ولأن الأمر كذلك، فاقتصاد إيران لا يتأخر انهياره، إلا من عبر عمليات الاحتيال، التي تجد دائما المؤسسات المالية الكبرى والصغرى الحاضنة لها، في أي وقت وأي مكان. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن ''ستاندارد تشارترد'' ــــ حسب الوثائق التي تجمعت ضده وتقع في 30 ألف صفحة ـــ أجرى في ست سنوات 60 ألف عملية دفع وتحويل مختلفة بالدولار الأمريكي، عبر فرعه في نيويورك فقط!
بالطبع هذا المصرف ليس الوحيد (ولا الأول) الذي يمارس الأعمال السرية المشينة والخطيرة. ومن المصارف الكبيرة يأتي ''إتش إس بي سي'' ــــ ثاني أكبر مصرف في العال ــــ الذي وفر لنظام خامنئي، ما يحلم به من قنوات مالية سرية احتيالية دنيئة، ضاربا بكل القوانين العقابية التي فرضتها الحكومات الغربية على إيران، واستفاد حتى نظام سفاح سورية بشار الأسد (الذي اتخذ من شعبه كله عدوا له)، من هذه القنوات وغيرها، نتيجة التداخل المالي الاحتيالي بين النظامين في كلا البلدين، واستنادا إلى الحلف السرطاني بين الأسد وخامنئي. مصارف كثيرة بأسماء كبيرة تخرق العقوبات الأمريكية (والغربية عموما)، من بينها ''باركليز'' و''مجموعة لويدز'' البريطانيتان، و''كريدي سويس'' السويسري، و''آي إن جي'' و''مجموعة إيه بي إن أمرو'' في هولندا.. إلى آخر السلسلة.
ويعترف المسؤولون الغربيون، بصعوبة حصر مكامن خرق العقوبات كلها، حتى لو تم تحديد المصارف والمؤسسات المالية المشبوهة. ولعل هذا ما يساهم في تفسير محتوى رسالة إلكترونية لأحد كوادر ''ستاندارد تشارترد'' تم ضبطتها من قبل السلطات الأمريكية. فقد جاء بالحرف ''من تظنون أنفسكم أنتم الأميركيون لتقولوا لنا ولبقية العالم بوجوب عدم التعامل مع الإيرانيين''. وهذا أيضا يوضح ما قاله بنجامين لوسكي المشرف على الخدمات المالية في نيويورك في تقريره حول المصرف نفسه بأن ''ستاندارد تشارترد، مؤسسة محتالة خططت بعناية لخداع السلطات الأميركية، قامت باستخدام إجراءات مزورة، وسجلات تجارية زائفة من أجل تستر منقطع النظير على عملياته''.
أوجدت التحقيقات في حجم وهول تورط ''ستاندارد تشارترد'' في الإرهاب الإيراني وما يتصل به، ذهولا لن يزول بسهولة لدى المسؤولين الأمريكيين، خصوصا فيما يرتبط بحبكة العمليات الاحتيالية وتشعبها وتداخلها. لكن في النهاية، هذا هو القطاع المصرفي العالمي، الذي لم يخضع بعد إلى الإرادة التنظيمية بصورة كاملة، رغم كل القيود التي فُرضت عليه في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى. وهذا القطاع لا يختلف (في غالبيته) سلوكيا عن مرابي دنيء، لا يسعى إلا لتحقيق الربح المضاعِف لا المضاعَف، وليس مهما شكل وطبيعة الأدوات لتحقيق هذا الهدف. أموال منهوبة من الشعوب المحتاجة، وأخرى ناتجة عن تجارة الرقيق والمخدرات والسلاح.. أموال ''متوالدة'' من منظمات إرهابية، كلها قابلة للغسل والتبييض و''الكي'' والتعليق. وهذا كله يوفر البيئة المثلى لأنظمة مارقة (كنظامي الأسد وخامنئي)، خصوصا أن هذين النظامين، لا يشتغلان في السياسة، إلا عبر لوائح العصابات وقطاع الطرق. وإذا كانت بعض المصارف تحتال على الأفراد وتحول حياتهم إلى جحيم متواصل، فإن بعض المصارف الأخرى، تحتال على أمم بأكملها. إنها بالفعل ترتكب جرائم ضد الإنسانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق