الأربعاء، 1 أغسطس 2012

قارة الأسئلة الكثيرة والأجوبة القليلة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"لا يمكن حل الأزمة الراهنة في منطقة اليورو، عن طريق سندات باليورو"
                                                                                       أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا

كتب: محمد كركوتــــــــي

هل  تكفي "المسكنات" المالية التي وصفتها "عيادة" القمة الأوروبية الأخيرة، لعلاج مرض اليورو، وبمعنى أصح لمعالجة وباء هذه العملة؟ ومع هذا السؤال، هناك عشرات (بل مئات) الأسئلة التي تُطرح بكل لغات الاتحاد الأوروبي، في مقدمتها مَنْ هزم مَنْ، على صعيد العلاج أو محاولة العلاج؟ بصياغة أخرى للسؤال، هل هناك منهزم أصلاً وبالتالي هناك منتصر؟ وبصورة أكثر تفصيلاً، هل سيكون هناك منتصرون في النهاية؟ علماً بأن هذه النهاية لن تكون قريبة، بل هي بعيدة.. وبعيدة جداً. الأسئلة كثيرة، والأجوبة أقل منها عدداً، وأمام هذا المشهد، يستطيع أي إنسان أن يصف الأزمة بالكارثة، والمشكلة بالمصيبة، والمرض بالوباء. وفي المشهد نفسه، يعلو صوت أولئك الذين لا يزالون يحلمون باستعادة عملاتهم الوطنية، ورمي أوراق اليورو الخريفية في أقرب صندوق للقمامة. ففي المصائب الكبرى، تزدهر عادة مشاعر الوطنية الضيقة، وتتأجج العواطف، وإن تعارضت مع المصلحة الذاتية.
الأسئلة أكثر من الأجوبة، في حين تعيش أوروبا موسماً دائماً للتخفيضات، ليس لأسعار السلع المباعة في متاجر التجزأة فيها، بل للتصنيفات الائتمانية. إنه بحق موسم الفصول الأربعة لـ "تنزيلات" المستويات الائتمانية للحكومات والمصارف والمؤسسات المالية الكبرى. أما بالنسبة للمؤسسات الصغرى منها، فهي ترتبط شاءت أم أبت بالكبرى، وتنخفض مستوياتها تلقائياً معها وترتفع مخاطرها بها. ومن المفارقات، أن المصرف الناجح في أوروبا حالياً، هو ذاك الذي تأجل تخفيض مستواه ليوم آخر. لقد بلغ الحال المصرفي في هذه القارة، حداً فقدت المصارف الكبرى القدرة على مجرد التفكير، في "التهام" مصرف صغير هنا، وآخر متوسط هناك. فقد أصبح المفترس هو نفسه مشروع فريسة، تماماً كما يحدث في الغابات عندما تنقلب قواعد الحياة فيها بين الحين والآخر.
كانت أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا، تعيش بعضاً من المأساة – الملهاة التاريخية لخسارة منتخب بلادها في كرة القدم، أمام نظيره الإيطالي، في نهائيات كأس الأمم الأوروبية، عندما أعلنت بأنها حققت أمراً مهماً في القمة الأوروبية الأخيرة، ولكن مع اعتراف حتمي منها بأنه "لا تسوية بدون مقابل". والذي تابع عن قرب مواقف ميركل من خطط الإنقاذ الخاصة بالديون الأوروبية، لا بد أن يلحظ هزيمة لها واضحة في هذا المجال. والأمر لم يكن كذلك بالنسبة للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، الذي كان ولا يزال يدفع باتجاه مغاير لما تدفع به جارته الألمانية، حتى لو وصف نتائج القمة المذكورة بأنها "تبعات سعيدة". وإقرار صندوقين هما "الآلية الأوروبية للاستقرار" و"الصندوق الأوروبي للاستقرار"، مهمتهما إعادة رسلمة المصارف والمؤسسات المالية الأوروبية (الغارقة أو تلك التي تتجه إلى الغرق) مباشرة وفق شروط الصندوقين، هذا الإقرار بحد ذاته خطوة عملية تصب في سياق التوجه الفرنسي. بل كان مطلباً سابقاً للبنك المركزي الأوروبي. أما كيف تَعارَض مع رؤية ميركل، بصورة أو بأخرى، فلأن الصندوقين يستطيعان شراء سندات الدول غير المستقرة مباشرة من الأسواق، وهو أمر اعتبرته المستشارة الألمانية في السابق، نوعاً من أنواع المقامرة.
الاتفاق الذي تم التوصل إليه، هو بمنزلة تأجيل (أو تلطيف) للخلافات الفرنسية-الألمانية، وهو مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى، ليس بسبب استفحال أزمة الديون الأوروبية فحسب، بل لغياب التناغم السياسي بين برلين وباريس، الناجم عن رؤى مختلفة لرئيس فرنسي، يريد نمواً مع قليل من التقشف، ولمستشارة ألمانية تسعى إلى تقشف كبير وواسع، بصرف النظر عن مستوى النمو. ولكن يبقى الدافع الأهم لهذا الاتفاق، وهو حرص كلا الطرفين الرئيسيين على الساحة الأوروبية، على بقاء كل دول اليورو في منطقة هذه العملة، ولولا ذلك، لشهدنا انسحابات متتالية، طوعاً أو قسراً، ولدارت المطابع لتُعيد طباعة العملات الوطنية السابقة.. درخمات، ماركات، فرنكات، ليرات.. إلى آخره.
غير أن هذا كله لا يعني أن أزمة الديون الأوروبية في طريقها إلى الحل. فما طُرح ليس سوى "مسكنات" مالية تنفع عندما تكون الخيارات محدودة، والرؤى السياسية (وبالتالي الاقتصادية) غير متوافقة بما يرقى إلى مستوى الأزمة. وهنا تأتي أهمية قيام اتحاد اقتصادي ونقدي حقيقي، أي وحدة اندماجية، ليس على طريقة الوحدات الاندماجية العربية الغوغائية التي شكلت مجموعة من "الصرعات" في القرن الماضي، بل على شكل أقرب لما هو قائم في الولايات المتحدة الأميركية. بمعنى آخر أن تتضمن هذه الوحدة الركائز الأربع، التي بدأ بالفعل القائمون على الاتحاد الأوروبي تسويقها وترويجها، وهي اتحاد مصرفي، وآخر موازني، وآخر اقتصادي، إلى جانب طبعاً اتحاد سياسي. وهذا لن يضمن حل المشاكل التي قد تظهر في مرحلة أو أخرى، بل يحتويها في إطار محلي أوروبي. إنها عملية ليست سهلة، لكن أساساتها موجودة على الأرض، تحتاج فقط إلى حملة تثقيفية شاملة، لأولئك الذين لا يزالون يرفضون فهم مخاطر الانغلاق المحلي الوطني، في قارة مفتوحة طبيعياً على بعضها البعض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق