السبت، 17 يونيو 2017


المقامرة التي كسرت تيريزا


"الفن، والحرية، والإبداع تغير المجتمع بقوة أسرع من السياسة"
فيكتور بينشوك رجل أعمال أوكراني وفاعل خير معروف

كتب: محمد كركوتي

ليست
ماما تيريزا الراحلة المعروفة. إنها تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية، التي أطلقت المقامرة على مستقبلها رغم أنها لم تكن بحاجة إليها. أما المقامرة، فهي الدعوة لانتخابات عامة مبكرة جدا، في وقت كانت تتمتع بمقاعد برلمانية في مجلس العموم تسمح لها بالمضي قدما في رسم سياساتها وصنع القوانين والقرارات، والأهم البدء بمفاوضات ستكون بالقطع مضنية مع الاتحاد الأوروبي للانسحاب منه. صحيح أن أغلبيتها لم تكن ساحقة، ولكنها بالتأكيد تكفل لها وقودا للحراك السياسي دون منغصات، في وقت نشر الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي المنغصات في كل الأركان، وصنع خلافات حتى ضمن التيار السياسي والاجتماعي الواحد في البلاد كلها. كانت تيريزا ماي تأمل أن تحصد مزيدا من المقاعد في الانتخابات العامة التي دعت إليها، لتشكل حكومة قوية. ولأن الأمر كان مقامرة غير محسوبة على الإطلاق، خسرت رئيسة الوزراء أغلبيتها البرلمانية!
الثابت أن ماي عندما دعت لانتخابات مبكرة، كانت تستند إلى حقيقة أن شعبية حزب العمال المعارض المنافس الأكبر في الحضيض. وليس هذا فحسب، بل كان هناك صراع علني عنيف بين قيادات الحزب العمالي من أجل التخلص من زعيمه جيرمي كوربين الذي اعتبرته الغالبية العظمى، زعيما لا يمكن أن ينتصر الحزب بزعامته، في أي انتخابات، بصرف النظر عن توقيتها. وقعت ماي وفريقها الاستشاري بهذا المطب، مستندة بالطبع إلى أن ما يجري على الساحة العمالية هو في الواقع حملة انتخابية مضادة لهذا الحزب، وبالتالي هي حملة تصب تماما في سياق مصالح حزب المحافظين الذي تتزعمه. "تغنت" رئيسة الوزراء بالفارق الهائل في شعبية حزبها مع العمال وفق استطلاعات للرأي كانت حقيقية بالفعل، لكنها لم تكن طويلة الأمد في حقائقها.
الذي حصل، أن كوربين وأعوانه المخلصين، قدموا مشروعا انتخابيا عالي المستوى، والأهم قريبا جدا من شرائح الشباب، وهو أمر لم ينتبه إليه المحافظون، يضاف إلى ذلك أن المحافظين أنفسهم تعرضوا لهجوم بالبراهين والإثباتات من زاوية ماي نفسها، في أعقاب الهجمات الإرهابية التي استهدفت بريطانيا في غضون ثلاثة أشهر فقط. فقد تم تحميل ماي المسؤولية لأنها قلصت قوة الشرطة في بريطانيا بأكثر من 20 ألف فرد، عندما كانت وزيرة للداخلية على مدى خمس سنوات في حكومة ديفيد كاميرون. أمام الأعمال الإرهابية لابد من ضحايا مباشرين وآخرين غير مباشرين، وكانت تيريزا ماي من أولئك. وفي الغرب، لا حلول وسط عادة في التعاطي مع المسألة الأمنية. رغم أن الجميع يعرف، أن الـ20 ألف شرطي الذين سرحوا، لا يضمنون بالطبع عدم وقوع أعمال إرهابية هنا أو هناك.
بعد الانتخابات العامة الأخيرة، تحولت حكومة المحافظين من سلطة قوية كانت تسعى لمزيد من القوة، إلى سلطة ضعيفة تتسول تحالفا مع أحزاب صغيرة لتتمكن من تشكيل حكومتها. في حين أظهرت تقدما مذهلا لحزب العمال بزعيمه كوربين على حساب كل الأحزاب وفي مقدمتهم المحافظون أنفسهم. الخسارة كانت مفجعة بالفعل "رغم أن المحافظين حافظوا على التفوق بعدد المقاعد" إلى درجة أن عشرة وزراء في حكومة تيريزا خسروا مقاعدهم البرلمانية، وبالتالي مناصبهم الوزارية. وهذه إشارة مروعة "سياسيا" إلى أن الخسائر لم تصب مرشحي الحزب الحاكم فقط، بل مرشحيه الذين يحتلون مناصب في الحكومة. ومع أن زعيم الحزب "عادة" الذي يخسر الأغلبية البرلمانية يستقيل من زعامة الحزب، أصرت ماي على المضي قدما في تشكيل حكومة ائتلافية معرضة في أي لحظة للانهيار على أهون الأسباب.
والانهيار هنا في هذا الوقت بالذات سيكون كارثة على البلاد كلها، لأن بريطانيا تحضر نفسها في أيام لبدء مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي بحكومة ائتلافية هشة مضطربة. ففي حين أن هذه المفاوضات التاريخية الحرجة الصعبة تتطلب وحدة وطنية، فإن ما حصل في المملكة المتحدة عكس ذلك تماما. لم تمر بريطانيا بهذا المشهد السياسي المروع منذ سبعينيات القرن الماضي، ولكن ما يجعل الوضع أكثر ترويعا في الحالة الراهنة، ليس سوى المفاوضات المرعبة حقا، خصوصا أن تكاليف الخروج ستتساوى مع تكاليف البقاء، وبعض التقديرات تتحدث عن أنها ستكون أعلى حتى من تكاليف استمرار بريطانيا عضوا في الاتحاد. هل الأجواء ضبابية في بريطانيا؟ لا، إنها سوداء حالكة، وتبقى مليئة بالمفاجآت لاسيما تلك المرتبطة بإمكانية انفراط عقد الحكومة الائتلافية الهشة عند أول منعطف.
المستشارون "الناصحون" الذين شجعوا تيريزا ماي على إطلاق انتخابات عامة مبكرة رحلوا في الساعات الأولى التي أعقبت إعلان النتائج. لكن هذا لم يؤثر بأي صورة في حقيقة الأوضاع في أعقاب الانتخابات. وبينما كان زعيم العمال كوربين يعاني العصيان داخل حزبه، صارت ماي في وضع كوربين الآن تماما، خصوصا مع بدء بعض المحافظين الحديث عن ضرورة استقالة تيريزا فورا، وعن أنها ليست مؤهلة في الواقع لحكم البلاد بصرف النظر عن نجاحها في استدراج حزب إيرلندي صغير جدا لمنحها الشرعية البرلمانية.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق