السبت، 17 يونيو 2017


الاقتصاديون في أزمة مستدامة



"نحن نعلم جميعا، أن الاقتصاديين وجدوا، لجعل أحوال الطقس تبدو جيدة"
روبرت ميردوخ - مستثمر عالمي في مجال الإعلام

كتب: محمد كركوتي

ليست الأزمة الأولى التي يمر بها الاقتصاديون حول العالم. بل لا توجد مرحلة لم يمر بها هؤلاء في أزمة، أو شيء منها. ورغم محاولاتهم الابتعاد عن الأزمات (أو إبعادها عنهم لا فرق)، إلا أنهم ظلوا بمنزلة الوعاء الذي يحتضن كل السلبيات والانتقادات والهجوم، وأحيانا كثيرة الوعاء الذي يحتوي على الشتائم أيضا. حتى إنهم في بعض المراحل، تحملوا أخطاء حكومات ظلما، وإن كانوا في نظر شرائح عديدة من هذا المجتمع أو ذاك، ليسوا من المظلومين. لماذا؟ لأنهم هم السبب الرئيس للمشكلات، رغم أن أغلبيتهم العظمى لا تملك القرار أو السلطة لاتخاذ قرارات تؤدي لهذه المشكلات. فباستثناء بعض الاقتصاديين الذين جلسوا في موقع صناع القرار، تبقى الأغلبية العظمى منهم بعيدة عنه، وإن اقتربت منه عبر علاقات يصنعها الميدان الاقتصادي تلقائيا.
لا أحد "مثلا" سينسى قريبا المأساة التي شاركوا فيها وأخذت شكل الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008. في الواقع دخلوا التاريخ في هذا المجال، وباتوا جزءا لا يتجزأ من أي دراسة أو بحث أو تحليل يتناول هذه الأزمة - المصيبة. وضع الاقتصاديون جنبا إلى جنب المصرفيين الذين "اخترعوا" مشتقات مالية مروعة، وقاموا بتسهيل الحصول على قروض غير مضمونة، وأغرقوا الناس بالوعود الوردية الجميلة، وضللوا حتى المسؤولين في بعض الحكومات حول العالم، الأمر الذي أنتج الأزمة العالمية المشار إليها. مرة أخرى لم يكن للاقتصاديين سلطة القرار، ولكن بلا شك كان "ولا يزال" لديهم امتياز التلاعب بالحقائق، أو في أفضل الأحوال الجهل في قراءة الآثار المترتبة على حراك اقتصادي هنا وآخر هناك.
والحق إن الهجوم على الاقتصاديين ليس مقتصرا على الناس العاديين لاسيما أولئك الذين تضرروا بصورة عميقة جراء توقعاتهم وقراءاتهم المضللة أو الخاطئة. بل شمل أيضا باحثين مختصين وأكاديميين. وانفجر هؤلاء عليهم، في أعقاب تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي. ففي حين يعتبر الاقتصاديون أن خطأ طفيفا حدث في توقعاتهم حول ما سيحدث في أعقاب الخروج البريطاني، يرى المنتقدون أنهم فشلوا. ويرد مارك هاريسون الأستاذ في جامعة وورك البريطانية على مهاجمي الاقتصاديين قائلا: "هل علم الأوبئة في أزمة بسبب عدم تنبؤ مسؤولي الصحة العامة بأكبر وباء إيبولا في التاريخ؟". ولكن الأمر لا يحسب وفق هذه المقارنة، خصوصا أن التاريخ أثبت عدة مرات أن النسبة الأكبر من الاقتصاديين لا يتعلمون بسرعة.
ورغم أن جانبا كبيرا منهم يعترف بالأخطاء، إلا أنهم يقعون فيها مجددا، أو يسقطون بحالات مشابهة لها. فاعتراف بنك إنجلترا المركزي بأنه بالغ في التأثير قصير المدى لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي "مثلا"، لا يزيل عنه الخطأ الفادح. ومثل هذه "المبالغة" حملت عواقبها الخطيرة معها. والحق إن مثل هذه الاعترافات كثيرة في الساحة الاقتصادية العالمية. فحتى ألان جرينسبان رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأسبق قال في أعقاب انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية "إنه لم يتوقع أن تكون الأزمة بهذا المستوى، وإنها تحصل مرة كل 100 عام". ماذا حدث؟ وقع العالم أجمع في براثنها، وفي المقدمة كانت الولايات المتحدة نفسها. فالخطأ الذي لا يمكن تصحيحه إلا بعد عقود من الزمن، ليس خطأ بل خطيئة، لاسيما عندما يرتبط بأجيال لم تولد بعد.
وللملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا موقف شهير في هذا المجال، عندما زارت كلية الاقتصاد في لندن، وطرحت سؤالها الشهير للقائمين على الكلية "لماذا لم يشاهد أحد الأزمة المقبلة (أزمة 2008) وهي في الطريق؟" وكان الجواب أن المسألة لا تتعلق بالتنبؤ، بقدر ما تتعلق بالتفكير الهائل بالتمني والغطرسة في كامل حوكمة النظام المالي. ولكن مهلا، لماذا لم يتحرك الاقتصاديون ويكشفون "تفكير التمني والغطرسة"؟ لا جواب هنا. لكن عندما تحرك بعضهم بالفعل وحذر من المصيبة القادمة، كانت الأغلبية العظمى منهم تتعاطى معهم بسخرية، ناهيك طبعا عن تأييد الحكومات التي كانت قائمة لـ"اقتصاديي التمني والمتغطرسين". الحكومات أحبت سماع هؤلاء، وسخرت هي أيضا من منتقديهم.
لا يمكن التعميم هنا، فهناك اقتصاديون وقفوا بالفعل في وجه الحراك المالي السيئ سواء ذاك الذي يخص الأزمة أو غيرها، لكن أدواتهم كانت معدومة. ومن الواضح أن السياسيين استخدموا الشريحة الأكبر من الاقتصاديين الذين "يلحنون قصائدها" غير البريئة"، وهي قصائد تفيد مرحلتهم فقط وتنال من المراحل الأخرى المقبلة. وابتعد السياسيون عن أولئك الذين يظهرون الركاكة في "قصائد الحكومات" ما يؤثر بالطبع سلبيا في أدائهم الشعبي. إنها مسألة مصالح منذ البداية، غير أنها مصالح لا تضر فردا ولا جماعة، بقدر ما تنشر المصائب والأعباء في المجتمع ككل. وليس هذا فحسب، بل تنال أيضا من هذا المجتمع لسنوات طويلة، وطويلة جدا
.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق