الأحد، 18 يونيو 2017



خروج من صعب إلى أصعب



كتب: محمد كركوتي

ستكون المفاوضات الخاصة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي تنطلق أكثر من صعبة. بعد أن كانت صعبة فقط قبل الانتخابات البريطانية العامة التي حولت نتائجها "تمنيات" رئيسة الوزراء تيريزا ماي إلى مجموعة من الهموم. هموم تتعلق بحزبها، وأخرى ترتبط بمصير بقاء المملكة المتحدة على شكلها الراهن، وهموم تخص التركيبة الانتخابية المحلية الجديدة، وأخرى لها صلة مباشرة بالصعود المفاجئ لحزب العمال المعارض. هذا الحزب الذي كان قبل شهرين فقط من الانتخابات العامة "مَضحكة" انتخابية، لاعتقاد الجميع (بمن فيهم شرائح من العمال) بأنه لا يمكن أن يحقق تقدماً في أي انتخابات طالما ظل جيرمي كوربين على رأسه. وهذا الأخير قاوم كل الضغوط والمحاولات لعزله، إلا أنه نجح في البقاء، وجلب لحزبه مقاعد برلمانية مُقتنصة من حزب المحافظين الحاكم وبقية الأحزاب الأخرى.

         ليس مهماً في الوقت الراهن الحديث عن نتائج الانتخابات. فأرقامها التي صبت في صالح العمال مذهلة، وتختصر المشهد السياسي والانتخابي العام. المهم الآن وحتى عامين مقبلين على الأقل، هو شكل مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والأهم طبيعة اتفاقات الخروج التي سيتم التوصل إليها. بينما عبرت دوائر المفوضية الأوروبية عن مخاوفها ليس من خروج بريطانيا، بل من تباطؤ الخروج في ظل وجود حكومة بريطانية ائتلافية هشة قابلة للانهيار عند أول مشروع قرار يعرض للتصويت في مجلس العموم، حتى لو كان هذا المشروع يختص بمنع "مضغ اللبان -العلكة"! أو شكل الزينة العامة في أعياد الميلاد! حكومة الائتلاف اليوم قد لا تكون موجودة في أسبوع أو أسبوعين من الآن، ليعود الاضطراب السياسي إلى حاله فوراً. واضطراب من هذا النوع في ظل مفاوضات تاريخية، له تداعياته السلبية على طرفيها.

        كانت تيريزا ماي قبل الانتخابات العامة التي دعت "ببلاهة" إليها، تريد أن تشكل حكومة قوية من أجل المفاوضات. ولا سيما إذا علمنا أن يوجد على طاولة المفاوضات ما لا يقل عن ألفي اتفاقية بين أوروبا والمملكة المتحدة، تضاف إليها مذكرات تفاهم تتحول تلقائياً إلى شكل من أشكال الاتفاقات، إلى جانب التزامات بريطانيا المالية تجاه الاتحاد نفسه. بعض التقديرات أشارت إلى أن تكاليف الخروج ربما تتساوى مع كلفة البقاء. وهناك تخمينات أخرى تتحدث عن أن الخروج أكثر كلفة من البقاء. وقد تصل التكاليف إلى أكثر من 100 مليار يورو، كما أنها ستُدفع على مدى سنوات. باختصار، الخروج لا يوفر لبريطانيا الدفعات المالية الهائلة المستحقة عليها بشكل أو بآخر.

        وهنا في الواقع تكمن صعوبة المفاوضات. فكما يقال "دخول الحمام ليس مثل خروجه"، ولندن تعرف هذه الحقيقة الآن بصورة أكثر وضوحاً، ولاسيما مع تأكيدات الأوروبيين على ألا تتوقع بريطانيا معاملة خاصة. وهذه النقطة بحد ذاتها هي عبارة عن رسالة أوروبية لكل البلدان المنضوية تحت لواء الاتحاد، بأن لا تفكر للحظة في خروج سلس أو غير مكلف. مع التأكيد أيضاً على أنه لن يسمح لبريطانيا بعقد اتفاقات تجارية ثنائية مع أي دولة في العالم (بما فيها الاتحاد الأوروبي نفسه) خلال فترة المفاوضات. ما يجعل الوضعية التجارية للبلاد أكثر اضطراباً، لتضاف مباشرة إلى الاضطراب السياسي المحلي العام، إلى جانب عامل مهم أيضاً، يرتبط مباشرة بمعسكر البريطانيين الذين لا يزالون متمسكين بقوة ببقاء بلاده ضمن الحضن الأوروبي.

        أمام هذه المعطيات، كانت بريطانيا بحاجة لحكومة تحكم بأغلبية، ولا تهتم بالمناوشات السياسية من هنا وهناك. حكومة تعرض اتفاقها التاريخي على الشعب البريطاني، ولو تطلب الأمر تصويتاً عليه في مجلس العموم. تعرضه دون خوف من تمرد نواب أحبوا أوروبا وكرهوا الانفصال، بصرف النظر عن الشرعية "الاستفتائية" لهذا الانفصال، وهي حق مكفول عند المحبين والكارهين لأوروبا. الخروج الذي كان صعباً، صار أشد صعوبة. وتحتاج تيريزا ماي في الواقع إلى مجموعة من العيون الخاصة بها في وقت واحد. عين على المفاوضات المروعة قبل أن تبدأ، وأخرى على حكومتها الضعيفة التي لا تتمتع بأغلبية برلمانية ضامنة، وعين على علاقات بريطانيا مع العالم، وأخرى على المملكة المتحدة نفسها المهددة بالتفكك. بل عين على منصبها المستهدف من وزرائها الكبار.

        تريد خروج "سلس"؟ عليها أن تعترف علناً أنها لا تضمنه. تسعى لخروج سريع، من واجبها اليوم أن تقول "إنه ربما سيكون طويل.. طويل". لا مقاومة عملية لرئيسة الوزراء أمام "وحشية" المفاوضين الأوربيين، والأهم أنه لا ملجأ وطني قوي أو عملي لها أيضاً أمام هذه "الوحشية". إنها تمضي قدماً إلى المفاوضات وهي تسير بثبات إلى "أحضان" التاريخ، الذي ستدخله من كل الأبواب. رئيسة الوزراء التي خرجت بلادها من الاتحاد في عهدها، والرئيسة التي فاوضت بضعف (إن بقيت فعلاً في منصبها حتى نهاية المفاوضات)، والمسؤولة التي كسرت نفسها بيدها عندما دعت لانتخابات مبكرة ظنتها أنها مضمونة. دون أن ننسى بالطبع، أنها قد تكون في منصبها، إذا ما نجحت اسكتلندا من نزع التاج البريطاني عن رأسها، وحققت ايرلندا الشمالية تقدماً هي الأخرى في الانفصال عن هذا التاج.


(المقال خاص بجريدة "الاتحاد" الإماراتية)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق