الخميس، 1 يونيو 2017



ضمير بلير الأوروبي لا غير


"بريطانيا العظمى فقدت الإمبراطورية، ولم تجد بعد دورا لها" دين أشيسون وزير خارجية أمريكي راحل

كتب: محمد كركوتي

حسنا، قرر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير العودة إلى الحياة السياسية، ليس كزعيم أو نائب برلماني، أو وزير مثلا، بل كشخصية تتصدى لعملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. هو يعرف قبل غيره، أنه لا يستطيع العودة إلى العمل السياسي بمفهومه التقليدي المعروف، والسبب يعرفه العالم أجمع، في أنه لم يترك لسمعته السياسية أي مدخل للعودة. فـ "التلوث" السياسي الذي أصيب به، لا يترك مجالا أمامه لـ "تطهير" نفسه. مع وصول بلير إلى الحكم في عام 1997، اكتسب توصيفا بالغ الأهمية، في أنه مثل "التفلون"، وهذه الأخيرة مادة معروفة لا يلتصق بها شيء. فكان يتقدم دون شوائب عالقة (وإن وجدت حقا). ومع الوقت تحول "التفلون" إلى مادة صمغية يلتصق بها كل شيء.
اليوم يريد توني بلير العودة فقط للمحاربة على صعيد خروج بريطانيا من الاتحاد، وهو إذا كان كاذبا في عشرات المسائل والقضايا، فإنه (للحق) يتمتع بصدق شديد في هذه المسألة على وجه الخصوص. إنه من الأشخاص الذين لا يستطيعون أن يتابعوا مستقبل المملكة المتحدة خارج الاتحاد الأوروبي، وهو مؤمن تماما ولديه المبررات الحقيقية بأن الخسائر البريطانية ستكون فادحة عند الخروج الفعلي، وأن تصحيح هذا الخطأ (إن تم بعد سنوات أو عقود مثلا) سيكون على حساب بلاده، وأن الذين أرادوا الانفصال، تمكنوا بالفعل من تحقيق نجاح باهر في ترويج الأكاذيب التي انطلت على الناخب البريطاني. وبالطبع فشل المؤيدون للبقاء في ترويج مضاد لهؤلاء، وكانت النتيجة "بريكست" خطير آنيا ومستقبليا.
ورغم أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق لا يمكنه (ولا غيره من الشخصيات) إعادة الساعة إلى الوراء، إلا أنه يراهن على النقطة الأهم الباقية حاليا على صعيد عملية الخروج، وهي تلك الخاصة بالنتائج التي ستتوصل إليها مفاوضات الخروج، وكل التوقعات تشير إلى أنها لن تكون في مصلحة بريطانيا. بل إن التصريحات الأوروبية ظلت واضحة منذ اليوم الأول لقرار بريطانيا الانسحاب، وكلها تدور حول مفاوضات لن تتضمن أي معاملة خاصة للندن، بل على العكس تماما، على هذه الأخيرة أن تدفع ثمن خروجها معنويا وماليا. والثمن كما هو واضح أيضا سيكون كبيرا، والأهم لن ينتهي بانتهاء المفاوضات بل سيستمر لسنوات طويلة بعد إقرار أي اتفاق بين الطرفين.
بالطبع يروج بلير إلى شرعية أن يُستفتى الشعب البريطاني على نتيجة المفاوضات، ويعتبر ذلك قمة الديمقراطية. إلا أن الإشارات الواردة من حكومة تيريزا ماي لا تذكر أي شيء بهذا الخصوص، والواضح فيها أنه لا استفتاءات أخرى، وأن اتفاق الانفصال سيطبق فور إقراره. ومن هنا ستكون حملة بلير إعلامية فقط لأنها لن تصل إلى مرحلة تغيير اتجاه البوصلة، وكل ما ستحققه ليس أكثر من سلسلة جديدة لمسلسل التخويف من الانفصال، وعرض الحقائق بالفعل على الناخب، لكن مهما كانت هذه الحقائق صادمة، فالآلية الاستفتائية لن تكون حاضرة، ولا سيما بعد الانتخابات البريطانية العامة الشهر المقبل، التي من المرجح أن يحقق فيها حزب المحافظين بزعامة ماي انتصارا كبيرا.
الأمر سيان، فيما لو كانت عملية "بريكست" متشددة أو مرنة، أو رقيقة بالنسبة للبريطانية أو خشنة. دون أن ننسى، أن الاتحاد الأوروبي يريد من خلال المفاوضات مع بريطانيا أن يهدد بصورة غير مباشرة أي دولة ضمن نطاقه تفكر في الانسحاب، أو حتى تطلب معاملة خاصة. كانت هذه المعاملة حكرا (تقريبا) على بريطانيا وانتهت الآن. أي أن الاتحاد "سيربي" الأوروبيين ببريطانيا. وبلغت مؤشرات صعوبة وضع بريطانيا في المفاوضات مع وصول الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون إلى الحكم. فهذا الأخير لا يعتبر الاتحاد الأوروبي مهما فحسب، بل إنه يشكل المصير المشترك لكل القارة الأوروبية، وهذا التوجه يلقى قوة دفع لا محدودة من موقف ألمانيا، التي اعتبر بعض مسؤوليها أخيرا، أن البريطانيين يحلمون باتفاق جيد، وهو حلم لن يتحقق.
أمام هذه الحقائق والتوجهات، لا يوجد أمام توني بلير إلا تفعيل نشاطه إعلاميا. وبصرف النظر عن صحة رصد عشرة ملايين جنيه استرليني لحملة مضادة لـ "البريكست" خلال مفاوضات الخروج، فكل الأمور تتجه إلى المسار الذي يرسمه الاتحاد الأوروبي. إنه الطرف الأقوى الآن، بينما تواجه المملكة المتحدة مخاطر حتى من داخلها، عبر توجهات الاسكتلنديين والإيرلنديين الانفصالية بحجة الانفصال الأوروبي. لا شك في أن توني بلير يتحلى (على غير العادة) بصدق كبير في هذه المسألة المصيرية، وهو مستعد للمضي إلى آخر الشوط في سبيل تكريس الحقيقة. لكنه في النهاية جاء متأخرا جدا، فضلا عن أن سمعته لا توفر له وقودا في مواجهة أولئك الذين اعتبروا أن كل مصائب بريطانيا آتية من أوروبا. وهؤلاء يعبرون عن التوجه الشعبوي المشين في الواقع الذي، تلقى ضربة شديدة البأس من انتخاب الفرنسيين ماكرون رئيسا لفرنسا. هذا البلد الذي يحب أن ينظر إليه، على أنه ضمير الاتحاد الأوروبي.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق