الثلاثاء، 29 أبريل 2014

لعنة السندات الإفريقية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






«الرجل المدين.. هو في الواقع عبد»
رالف إيمرسون فيلسوف وشاعر أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

حسناً، حجم مديونية القارة الإفريقية مرتفع.. ويرتفع. وهذا أمر سيئ. وفي أفضل الأحوال، غير متوافق مع آمال النمو التي تعيشها الدول الإفريقية، وغير الإفريقية التي تتعاطف معها وتعمل بصدق من أجل الوصول إلى أجود نقطة اقتصادية ممكنة. الإعفاءات السابقة من الديون، شكلت في الواقع ما يمكن اعتباره "رأس مال" للدول الإفريقية للنهوض، أو على الأقل لبدء التحرك نحو شكل من أشكاله. وتقدمت بعض الدول في هذا الاتجاه. فأعباء الديون التي كانت تعيش تحتها، شكلت كابحاً للحراك، ورغم أن الدول الدائنة أخذت وقتاً ليس قصيراً، لتعفي من الديون، إلا أنها أخذت في النهاية خطوة كانت واجبة، أكثر مما كانت خطوة سخية. ولم تتم هذه الخطوة، إلا بعد حملات مختلفة، تزعّمها نيلسون مانديلا رئيس جنوب إفريقيا الراحل، وانضمت إليها مجموعة كبيرة من القوى والشخصيات المختلفة، فيها المطربون.
يقول الشاعر والكاتب البريطاني الكندي روبرت سرفيس "الوعد هو دين لم يسدد". لقد وعدت الدول الكبرى أن تخفف ما أمكن من الأزمات الاقتصادية في القارة الإفريقية، وعليها أن تفي بوعدها. هناك بلا شك عوائق كثيرة في عدد من الدول الإفريقية، ناتجة أساساً من حال الفساد المتواصل. مع ضرورة الإشارة إلى أن دولاً أخرى في هذه القارة، حققت قفزات نوعية في مجال محاربة الفساد. ومن السخرية، أن طبيعة العون أو المساعدة التي تقدمها القوى الكبرى للبلدان التي تشهد فساداً، تسهم هي الأخرى في تعظيم الفساد، عن طريق وصول الأموال إلى غير مستحقيها، وفي طرق مريبة. على كل حال، هذه قضية أخرى، تستحق التركيز عليها في المرحلة المقبلة، خصوصاً في ظل ظهور وثائق رسمية في الغرب، أثبتت ضياع نسبة كبيرة من أموال المساعدات والمعونات الاقتصادية والإنسانية.
الديون لا تصنع الأعباء فحسب، بل تنشر الهموم أيضا. فقد قال بنجامين فرانكلين أحد مؤسسي الولايات المتحدة "الأفضل أن تذهب إلى سريرك بدون عشاء، بدلاً من أن تستيقظ بالديون". لقد عادت بالفعل مستويات الدين للارتفاع من جديد في كثير من الدول الإفريقية، وأول ضحية لها هو النمو الاقتصادي في المنطقة. وفي السنوات القليلة الماضية، تحققت مكاسب لافتة على الصعيد الاقتصادي الإفريقي. وهذه المكاسب باتت مهددة بالفعل، بإجماع كل الاقتصاديين، الذين حذروا مما أسموه "لعنة السندات". وإصدار السندات فيه من المخاطر أكثر من المكاسب، خصوصاً في بلدان لا تزال تسير بخطوات بطيئة في اتجاه "ثقة اقتصادية" لا تزال غائبة عن المشهد. فقد قامت دول مثل غانا والسنغال ونيجيريا ورواندا وزامبيا.. وغيرها بإصدار سندات بحثاً عن مزيد من الاقتراض. ومع تراجع حجم المساعدات الخارجية، زادت وتيرة الاقتراض، بما في ذلك القروض الأعلى كلفة من جهات تجارية.
ورغم أن مستوى المخاطر في هذا الشأن لا يزال منخفضا، إلا أن الأمر لن يبقى كذلك في المستقبل القريب، خصوصاً في ظل التنامي غير الصحي للاقتراض، وإصدار السندات. وعلى صعيد القروض العالية التكلفة، يقول الاقتصادي جوزيف ستيجليتز الحائز على جائزة نوبل "القطاع المالي يحب أن يجد من يفترسهم وأحدث فرائسه هي الحكومات في الدول النامية". والمعادلة باتت مكشوفة. سترتفع مستويات الدين بصورة لن تستطيع الدول المدينة تحملها، وبعد ذلك سيتدخل البنك وصندوق النقد الدوليين للإغاثة الاقتصادية. وحسب ستيجليتز، سيتكرر المشهد من جديد! والوضع الاقتصادي العالمي الآن ليس كما كان قبل الأزمة الاقتصادية العالمية؛ فالدول التي شطبت في السنوات التي سبقت الأزمة ما يقدر بـ 100 مليار دولار من ديون القارة الإفريقية، ليست على استعداد الآن للقيام بخطوة مماثلة.
والدول الدائنة هي نفسها تعيش أزمات ديون هائلة، وضعت بعض بلدان الغرب تحت ما يمكن تسميته بالوصاية من جانب المنقذين. مع ضرورة التذكير بأن المنقذين أنفسهم، باتوا في السنوات القليلة الماضية يخضعون لمجموعة من الضغوط. سواء تلك الناجمة عن ارتفاع الدين الحكومي، أو ضغوط سياسية محلية تكبل أو تعيق تحرك الحكومات. كل المؤشرات تدل على أن مستويات الديون في بلدان مثل غانا وأوغندا وموزمبيق والسنغال والنيجر ومالاوي وبنين.. وغيرها تتجه للعودة إلى ما كانت عليه قبل الإعفاءات من الديون، التي تتمتع بها. ورغم أن متوسط الزيادة في الدين بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي لا يزال متواضعاً، لكن المؤشرات على المخاطر بدأت تظهر.
بعض الدول الإفريقية حافظت على توازن الحالة الاقتصادية فيها، غير أنه لا توجد ضمانات لعدم انضمامها إلى شريحة البلدان الساعية لمزيد من الاقتراض. والحق أن مسؤولية القوى الكبرى لا تنحصر فقط في الإعفاء من الديون، بل تشمل أيضاً مراقبة مباشرة لما يجري على الساحة الاقتصادية في القارة الإفريقية. فأي انفلات اقتصادي مقبل لن يبقى في إطاره الإفريقي بل سيخرج من هذه القارة إلى أرجاء أخرى من العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق