الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

التجسس الاقتصادي في سياق التجسس على ميركل والملا عمر

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







«مهما كانت طريقة تفسيري لهذا الأمر. كنت في النهاية جاسوسة، ولست فخورة بذلك»
كريستين كيلير الجاسوسة البريطانية الشهيرة

كتب: محمد كركوتــــي
 
في ستينيات القرن الماضي، وجدت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية نفسها لفترة قصيرة جداً في حالة ركود! رغم اشتعال الحرب الباردة آنذاك. ربما لأن المحاربين كانوا يستريحون قليلاً. ماذا فعلت الوكالة، خوفاً من ''تكلس'' عظام عملائها؟ تجسست (للتسخين) على الممثلة إليزابث تيلور وزوجها الممثل ريتشارد بيرتون في ليلة دخلتهما! الدول تتجسس على بعضها، هذه حقيقة، ولكن تجسس الولايات المتحدة يبقى من نوع آخر، هدفه تعرية الهدف من آخر قطعة ممكنة، ولا يهم إن كان صديقاً أم عدواً أم عابر سبيل. والشعار هو نفسه، ذاك الذي يجلب الغثيان ''حماية الحرية''. ولهذا قال السياسي الكندي الراحل تومي دوجلاس: ''إن حماية الحرية لا يمكن أن تتحقق عبر التجسس''. وهو أراد أن يسهم في فضح هذا الشعار، ومعه ''الهتاف'' المصاحب له دائماً، وهو''حماية الأمن القومي''! ولكن ما دخل ''الأمن القومي'' بدخلة تيلور وبيرتون، وبأغنيات جون لينون، وبوب ديلان، ونكات الكوميدي الأمريكي ليني بروس، وغيرهم ممن كانوا أهدافاً ''استراتيجية'' للجاسوسية الأمريكية؟!
التجسس في الولايات المتحدة مَرَضي، آت من داء الخوف الذي حقنت به نفسها منذ تأسيسها، ولا توجد مؤشرات لدواء يشفيها منه. فهي تتجسس على الأصدقاء في طريقها التجسسي على الأعداء. لا فرق هنا بين هاتف أنجيلا ميركل، والـ ''توكي وكي'' الملا عمر، أو أيمن الظواهري. أو إيميل أبوحمزة المصري ونيكولا ساركوزي، أو رئيسة البرازيل ديلما روسيف. الجميع أهداف ''مشروعة'' للتجسس. والأمر يكلف فقط اعتذاراً للأصدقاء، أو نفياً يعرف الأمريكيون أنه سيُرمى في أول صندوق قمامة. إنهم يتجسسون على كل شيء. من تنهدات تيلور ونكات ليني بروس، إلى مخططات العمليات الإرهابية، مروراً بكل حراك، سياسي واقتصادي وعسكري. لا فائدة من اتصال ميركل الغاضب مع باراك أوباما، الذي نفى (كالعادة) التهمة رغم أنه يحمل سلاح الجريمة! كما يجب على المستشارة الألمانية، أن تلتفت لشؤونها المحلية، بدلاً من الانشغال بطرح مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يطالب بوضع نهاية لعمليات التجسس المكثفة، وانتهاك الحياة الشخصية. هذا القرار لن يمر، حتى لو دعمته دولة كفرنسا.
يقول كاتب روايات الجاسوسية الشهير جون لو كارييه: ''السؤال القديم يبقى: من يستطيع التجسس على الجواسيس''؟! سيبقى هذا السؤال بلا جواب. في العمل السري، تكون الأجوبة هي الأسئلة! الولايات المتحدة تتجسس (من ضمن ما تتجسس) صناعياً وتجارياً واستثمارياً ونفطياً. وإذا كان لدى دول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا والصين واليابان وغيرها، ما تخشى عليه من التجسس، فلا ضير من هذا النوع من التجسس على دول لا تملك شيئاً. وعندما لا تملك شيئاً، لا تخسر شيئاً. و''قطاع'' التجسس مثل قطاعات المحامين، لا يزدهر إلا في الأزمات. ولكن مهلاً، قفزت الولايات المتحدة على هذا الثابت، لتتجسس في كل الأوقات، وفي كل الأماكن، وعلى كل الشخصيات. فهي تتجسس على الصين اقتصادياً، وتنشر عيون عملائها على الدول الصديقة. من هذه الدول بريطانيا نفسها، التي ظلت صامتة (رسمياً) إلى حد الغيظ من فضائح التجسس الأمريكية. وربما هذا الصمت ينبع، من أن واشنطن لا تحتاج للتجسس على لندن، لأن الأخيرة تقوم بالمهمة نيابة عنها!
في السنوات القليلة الماضية ارتفعت وتيرة التجسس الاقتصادي بمفهومه العام، وهو متبادل بين الدول المتنافسة. وتفيد الوثائق الأمريكية التي نشرت حتى الآن، أن هذا النوع من التجسس وصل إلى أعلى مستوى له. ويأخذ (كما العادة في الحالة الأمريكية) الشكل الأكثر ''إبداعاً''. فقد شمل التجسس الأمريكي الصناعات والطاقة والعلاقات التجارية، وحتى البحوث الأكاديمية، والوثائق والأوراق الخاصة بالتنمية، وحراك الأسواق المالية، فضلاً عن الاستثمارات الخاصة المتعلقة بالأفراد، وتلك التابعة للحكومات. وهذا التجسس يتم بالطبع عبر مختلف الوسائل، الشخصية والإلكترونية، وما يعرف بالطرف الثاني والثالث. والخسائر المادية الناجمة عن التجسس كبيرة، لكن الخسائر المعنوية تبقى أكبر، خصوصاً من جانب الأصدقاء لا الأعداء. إن وباء التجسس الأمريكي بلغ حداً، أن قامت واشنطن باستجلاب معلومات اقتصادية تجسساً، بينما يمكنها الحصول عليها بصورة معلنة ورسمية!
يبقى الأوروبيون ''الحلفاء'' الأكثر شعوراً بالأسى من مجمل عمليات التجسس الأمريكية عليهم. البعض منهم اعتبر الأمر خيانة بكل معناها، والبعض الآخر فضل الصمت المُعبر، وآخرون التزموا الصمت الفاضح. أصوات كثيرة صدعت في البرلمان الأوروبي، لإرجاء مفاوضات التجارة مع الولايات المتحدة، كتعبير على امتعاض الأوروبيين من تجسس الأصدقاء عليهم. غير أن كل هذا، لن يقدم شيئاً يذكر على صعيد تغيير السلوكيات التجسسية الأمريكية. كل ما فعلته إدارة أوباما، أنها كالت الاتهامات لمن؟ للصين، بأنها أكثر الدول تجسساً على الصعيد الاقتصادي. لقد فعل الأمريكيون مثل العرب، الذين وضعوا الحق على الطليان في كل شيء! والحقيقة أن الحق كله على أخلاقيات الولايات المتحدة، التي لا تفرق من فرط خوفها المرضي المكتسب بين العدو والصديق!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق