الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

الاقتصاد الأمريكي بالتقسيط

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«أحياناً.. يتعين حتى على رئيس الولايات المتحدة الوقوف عارياً».
بوب ديلان شاعر ومغن أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

حتى إن لم تنفذ وكالات التصنيف الائتماني العالمية، تهديدها بخفض المستوى الائتماني للولايات المتحدة، إذا لم تحل أزمة الموازنة والدين، فالتصنيف ''العالمي المعنوي'' لهذا البلد، تعرض للتخفيض بصورة تلقائية. ودعم الاقتصاد الأمريكي ''بالتقسيط''، يرفع من حد ''التخفيض المعنوي'' له. والاتفاقات المؤقتة مثل الحكومات المؤقتة، لا توفر استدامة، ولا تنشر الطمأنينة محلياً وخارجياً. لا أحد يتوقع أن تصل الأزمة السياسية المتجددة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري إلى الهاوية. هي على حافتها، ليس الآن، ولكن منذ زمن طويل، طويل جداً. وستبقى عند مستواها الحالي لأجل بعيد.. بعيد جداً. الذي حدث، أن الجمهوريين الذين يرغبون في فشل تاريخي لباراك أوباما، وهو أكثر رؤساء أمريكا اضطراباً وتردداً وسلباً للإرادة، يعرفون أنهم لا يستطيعون المقامرة بسمعة البلاد. الحل كان واضحاً، جرعات مالية محددة (بل محصورة)، لاستمرار البلاد في الداخل والخارج.
طرحت أزمة الدين الأمريكي الكثير من الأسئلة، دون أجوبة مقابلة أو مستحقة. وبعض هذه الأسئلة، نال حتى من الشعار الذي أُطلق في الولايات المتحدة مع تأسيس البلاد نفسها. شعار محلي مع ''نغمة'' أمريكية خالصة، لكنه صار في لمح البصر شعارا عالميا بل أمميا. إنه ''الحلم الأمريكي'' أو The American Dream. لكن مهلاً، لجورج كارلين الكاتب والمؤلف والكوميدي الأمريكي وجهة نظر خاصة. فهو يقول: ''إنهم يقولون الحلم الأمريكي.. لأنه يتعين عليك أن تكون نائماً لتصدقه''. ومعه قال الشاعر الأمريكي ألان جينسبيرج ''أمريكا.. لقد منحتُكِ كل شيء، والآن أنا لا شيء''. لن تشهد الولايات المتحدة الانهيار، وحتى لو تفككت إدارياً من الداخل، ستبقى جسماً سياسياً، فيه من القوة ما يكفي لتتصدر المشهد العالمي دائماً. لكن ''الهيبة الأمريكية''، تأثرت سلباً (بلا شك)، من جراء الصراع الداخلي حول الموازنة ورفع سقف الدين. والمشكلة لا تكمن في الفوارق الأيديولوجية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. لقد تقلصت في الواقع بفعل استحقاقات التحولات التاريخية، التي تحدث في العالم. وهذه المشكلة محصورة في صراع إجرائي أكثر من أيديولوجية، بما في ذلك الرابط الخاص بالرعاية الصحية، التي يمقتها الجمهوريون تاريخياً.
لقد وجد الجمهوريون ''الحل''، وكان عليهم أن يجدوه هم لا الرئيس باراك أوباما، لأن هذا الأخير لا يملك الحلول بقدر ما يستحوذ على ''مشاريع مشاكل''. هناك تطرف داخل الحزب الجمهوري، هذا أمر مؤكد، والتطرف لا يغيب عادة عن هذا الحزب، غير أن له حدوداً مرتبطة بالمدى الذي يمكنهم احتكاره. وهذا المدى ينتهي عندما تبدأ الآثار الشعبية السلبية تنال من الحزب نفسه. مع ضرورة الإشارة إلى أن هناك جناحا في الحزب يقوده السيناتور جون ماكين، يعتقد أن الجمهوريين تجاوزوا الحدود. الحل المقبول لأولئك الراغبين في مواصلة ذل باراك أوباما، أن يسمحوا بتسيير شؤون الاقتصاد الفيدرالي ''بالتقسيط''! ورغم أن ذلك أنقذ الاقتصاد من الهاوية، إلا أنه أبقاه على حافتها، مع بقاء ''أدوات الذل'' في أيديهم. إنه حل اللاحل! وهو يشبه إلى حد بعيد الحلول التي تضطر الحكومات الانتقالية لاعتمادها، بسبب الظروف الاستثنائية، التي تمر بها بلادها.
الولايات المتحدة تعيش بالفعل حالة استثنائية، لكنها تتخذ شكل الاستدامة بكل مخاطرها الآن واستحقاقاتها لاحقاً. و''الاقتصاد بالتقسيط''، مثل الشراء بالتقسيط، تبقى الأمور مرهونة إلى أن يتم التسديد الكامل. وتحوم دائماً أجواء الشك في ملاءة المقترض، وفي قدرته على الإيفاء بأقساطه. لكن الأمر هنا يتعلق بدولة لا تزال تملك المفاتيح الأكثر للاقتصاد العالمي، وتجمعها روابط بدول حليفة وغيرها، الأمر الذي يصعد من مستوى الضغوط عليها. إن السماح للبيت الأبيض بالاستدانة حتى السابع من شباط (فبراير) المقبل، هو مجرد أول قسط. ولا توجد مؤشرات واقعية (الآن على الأقل)، تدل على أن الكونجرس سيمنح أوباما، عند ''تسديده'' القسط الأول، الصلاحية لإقرار سنوي نهائي للموازنة العامة. وهذا هو في النهاية السلاح الأمضى في أيدي الجمهوريين، ليس من المرجح أن يتخلصوا منه بسهولة. هم بذلك، يُسيرون شؤون البلاد، دون أن يطلقوا يد الرئيس.
سياسة ''التقسيط الاقتصادي'' هذه، وإن أذلت أوباما وأرضت معارضيه المتشددين، إلا أنها تزيد من حجم الشكوك حول مستقبل محورية الولايات المتحدة على الساحة الاقتصادية العالمية. هناك الكثير من الدول التي بدأت بالفعل إعادة النظر في استثماراتها الأمريكية، مثل اليابان والصين وغيرهما. وفي ظل الضعف الطبيعي الناجم عن استحقاقات الأزمة الاقتصادية العالمية، ستزداد الشكوك حول مستقبل الاقتصاد الفيدرالي الأمريكي نفسه بصورة مخيفة، وذات دلالات مرعبة. بما فيها تلك المتعلقة بالذي يُطرح حالياً ''الضعف في جسد الإمبراطورية الأمريكية''، إلى جانب حقيقة ''الحلم الأمريكي''، والسيادة العالمية لهذه الدولة. إن المسألة برمتها لم تعد محصورة في مؤسسات حكومية أُغلقت وأُعيد فتحها، فقد حدث ذلك في السابق، وليست مرتبطة باستعادة باراك أوباما راتبه من الدولة، بل باستعادة الولايات المتحدة ما خسرته من هيبتها. وهذا لن يتم بوجود أوباما في البيت الأبيض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق