الأحد، 27 أكتوبر 2013

ورطة الفنان والإعلامي العربي في ضحالته الفكرية

(المقال خاص بمجلة "إذاعة وتلفزيون الخليج" التابعة لمجلس التعاون الخليجي)




 الجاهل يؤكد، والعالم يشكك، والعاقل يتروى

 أرسطو

كتب: محمد كركوتـــي
مع انطلاق الثورات العربية المختلفة، وقع إعلاميون وفنانون عرب في شرك استقطاب إرادي!  أي أن جهة لم تغصبهم على ذلك. وتحديداً أولئك الذين استعبذوا الوقوف إلى جانب أنظمة حكم، قدمت لشعوبها كل الآلام الممكنة  وغير الممكنة، والمعاناة المتجددة. ورغم أن هؤلاء يعتاشون على الشعبية (بصرف النظر عن مستواها، أو أحقيتهم بها)، إلا أنهم، وبكامل إرادتهم قرروا الإعلان عن معارضتهم للحراك الشعبي، الذي أنتج هذه الثورات والانتفاضات المتلاحقة. كانوا في بعض الحالات، أعنف حتى من المستوى العنفي لبعض الثورات! بعضهم اعتبر، أنها ثورات مجرمين وقطاع طرق، والبعض الآخر قدم لها توصيفات تتراوح مابين التطرف والتخلف، دون أن يعترفوا بسبب واحد مباشر، لاندلاع مثل هذه الثورات، أو بمبرر للغضب الشعبي العارم. الأمر الذي أدخلهم أوتوماتيكياً في نطاق أنظمة غير شرعية، ليس بالضروة أنهم استفادوا منها أصلاً!  هؤلاء في الواقع، غامروا بشعبية لا يمكنهم الاستغناء عنها، بتأييد أنظمة، أصبح من الضروري التخلص منها. لقد  قامروا  بأرصدتهم دون أن يكونوا مضطرين للمقامرة. وفي المقامرة (أياً كانت) لا يوجد رابح دائم.
طرح فنانو وإعلاميو الأنظمة الاستبدادية كل "ثرواتهم" في سوق متلاطمة غير واضحة، دون سبب. ماذا حدث بعد ذلك؟ أنهم أُدخلوا قوائم أطلق عليها "قوائم العار"، وهي عبارة عن لوائح متجددة، وضع معاييرها ناشطون وجهات وقفت إلى جانب الثورات، بصرف النظر عن التفاصيل. ففي زمن الثورات، تدخل الكثير من التفاصيل في سياق الترف غير المُستطاع. أو في نطاق زمن ليس أوانه. ومشكلة أولئك الذين ارتضوا الدفاع عن الظلم، أنهم استخدموا القنوات التلفزيونية منابر لهم، وفي عز زحمة التعبير عن آرائهم وموافقهم عبرها، غاب عنهم أنها (أي القنوات)، الأدوات الوحيدة لعيشهم المهني، ومعاشهم الحياتي، وبدونها سيضطرون للبحث عن وظيفة أو مهنة أخرى. استفادت القنوات التلفزيونية التي تدعي التنوع، ولا تمارسه في الواقع، من هذه الموجة الجديدة في زمن التحولات. فالمشهد يحتاج لمعارضين من هذا النوع لتحولات شعبية، ويحتاج أيضاً إلى ثوار بجانبهم. ورغم أن النتيجة محسومة شعبياً، إلا أن فنانيي وإعلاميي الأنظمة المتلاشية، قرروا المواصلة حتى النهاية. ولكن نهاية مَنْ؟ نهايتهم الشعبية.
أظهرت الثورات العربية وتداعياتها في هذا المجال مرة أخرى، مدى ضحالة الوعي الذي تتمتع به الغالبية العظمى من المشتغلين في حقل الإعلام والفن في العالم العربي. وهي ضحالة متأصلة. وهؤلاء ليسوا أفضل بالتأكيد من أولئك الذين يستيدون المشهد الرياضي مثلاً. هناك جهل تاريخي بدأ مع بداية الحراك الفني والرياضي العربي بشكل عام، أصاب النسبة الأكبر من المشتغلين المذكورين، ولا تبدو مؤشرات لنهاية له. صحيح، أن أحداً لا يتوقع إنتاجاً فكرياً بناءاً منهم، لأنهم لا يملكون لا أداواته ولا وعيه ولا حكمته. لكن الصحيح أيضاً، أن هذه الساحة لم تُنتج شريحة مقبولة ومعقولة (عدداً ونسبة)، من أولئك الذين يتمتعون بالحد الأدنى من المعرفة والثقافة والوعي، في مختلف المجالات الاجتماعية والحياتية. ويكفي متابعة مقابلة مع فنان أو إعلامي لعدة دقائق، لكي نعرف جودة ما يملك، أو لكي نحدد مستوى ضحالة ما يتمتع به! هذا الحال، تجسد بأوضح صوره في تعاطيهم مع التحولات الثورية التي تحدث في بلادهم، أو تلك التي تجري في بعض البلدان الأخرى.  
ولعل السبب الرئيسي لهذا المشهد البائس، أنهم لم يفهموا أن الفنان أو الإعلامي، ينبغي أن يكون مع الحالة الاجتماعية لا السياسية أو العسكرية. وهنا يأتي الفارق بين فنان عربي وآخر غير عربي. ليس من فرط ثقافة الأخير وضحالة ثقافة الأول، بل من جهة النضوح في فهم العلاقة بينه وبين ما يجري حوله. هناك الكثير من الغوغاء الذين يتمسكون بضرورة أن يكون الفنان والإعلامي ملتصقاً بما يجري، دون أن يعرفوا مكان "الالتصاق" وطبيعته! فالقضية عندهم.. عنوان، شعار، ركاكة فكرية، ولا شيء غير ذلك.  يستطيع أي مشتغل في هذا الحقل، أن يعلن انتمائه لأي حزب سياسي، (أو حتى مجموعة عسكرية.. إن رغب ) سوف يخسر معارضي حزبه، ويكسب المتعاطفين مع هذا الحزب. هذه مسألة بديهية، وعليه أن يقبل ويتحمل تبعات انتمائه، وينصرف للدفاع عنه. لكن الأمر يجعله طرف، في حين أنه ينبغي أن يكون لكل الأطراف. هذا إذا افترضنا أنه يتمتع أصلاً بفكر، يتيح له الانتماء السياسي الحزبي الفاعل المنظم.
الذي حدث في خضم الثورات العربية، أن هذه الشريحة وقفت مع من لا يريده الشارع، الشعب، الجماهير، وحتى طبيعة الأشياء. في حين كان عليها أن تقف إلى جانب المتضررين مباشرة من نتاج الصراع بين الشعوب والأنظمة المتلاشية. ففي حين (على سبيل المثال) وجدنا الممثلة الأميركية أنجلينا جولي، تزور مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا والأردن، الفارين من حرب إبادة تشن عليهم، تظهر الممثلة رغدة، لتطلب علناً من بشار الأسد، بأن ينهي الثورة في سوريا بأسرع وقت ممكن، حتى ولو اضطر إلى استخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب! (لقد استخدمه بالفعل). هذه السورية، وضعت الشعب نفسه عدواً لها، بينما حددت الأميركية عوز اللاجئين العدو الوحيد، بصرف النظر عن رؤيتها للثورة. لم تهاجم الأسد ولا الثوار. بل هاجمت كل من يستطيع أن يقلل من حجم مأساة اللاجئين، ولا يقوم بذلك. لقد هاجمت حتى الدول التي تتقاعس في هذا المجال، دون أن تتورط بأي موقف سياسي يحسب عليها. هناك الكثير من النماذج العربية المشينة، بما في ذلك، من حيا دخول الدبابات إلى الجامعات، ومن برر المجازر.. إلى آخره.
إنه النضوح والوعي والحد الأدنى من الثقافة المطلوبة لأي مشتغل في الفن والإعلام. وعلى الرغم من أن الذين وقفوا إلى جانب الثورات، قدروا أنها منتصرة في النهاية، وأنهم في الواقع يدعمون بذلك شعبيتهم على المدى البعيد، وأنهم وجدوا أن الثورات حق، إلا أنهم تقاعسوا كثيراً في الجانب الإنساني الناتج. كان عليهم أن يهتموا بالطرفين. ففي الطرف الآخر، هناك متضررون مدنيون أيضاً، من صراع سيحسم في النهاية لصالح الشعوب، لكن مصير المخطئين والمعتدين من الفناين والإعلاميين على الثورات العربية كلها، حسم منذ اليوم الأول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق