الأحد، 20 أكتوبر 2013

في أمريكا الوهم الاقتصادي بقيمة سوقية لا تُنافس

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«الرجال ليسوا أسرى لمصائرهم، بل هم أسرى لعقولهم»
فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي الأسبق



كتب: محمد كركوتـــي

أياً كانت نتيجة الصراع الدائر بين البيت الأبيض والكونجرس في الولايات المتحدة، فالرئيس باراك أوباما سيظل جريحاً حتى انتهاء ولايته. وسيبقى جريحاً إلى ما بعدها. وسيكتب في مذكراته لاحقاً، أن أعضاء الحزب الجمهوري استهدفوه شخصياً، أكثر من استهداف سياساته، أو سلوكياته وأساليبه في القيادة والعمل. سيكتب، كيف أنه كان ضحية لكل الأسباب مجتمعة. ولن ينسى أن يمرر أن أحد الأسباب تتعلق بلون البشرة. هناك ثلاث سنوات باقية لأوباما في البيت الأبيض. وهو بالتأكيد لن يحقق أياً من سياساته ووعوده الانتخابية في هذه الفترة المتبقية، بعد أن فشل في تمريرها أو على الأقل في وضع الأساس لها في السنوات الخمس الماضية. والسبب لا يعود فقط إلى أن الحزب الجمهوري يقوم بإفشال سياسات أوباما، بل لأن هذا الأخير ليس صانعاً للسياسات أصلاً. والبرنامج الوحيد الذي يسعى بالفعل إلى تطبيقه، كان ولا يزال ''الرعاية الصحية''، لكن حتى هذا البرنامج تمت صناعته في الواقع بتفاصيله الراهنة، خلال عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
بعد يومين ''في السابع عشر من الشهر الجاري''، سيعرف أوباما بالتحديد عمق الجرح الذي أصيب به. مساحة من ''جوف'' الجرح كانت بسببه هو شخصياً، عندما أصر على عدم التفاوض مع أعضاء الكونجرس، الذين يبحثون عن مكسب سياسي من خلال صفقة اقتصادية. الذي حدث، أن المتطرفين من الجمهوريين بدأوا يتسيدون المشهد. لقد أحرج تعنت أوباما في الحوار مع خصومه السياسيين، أولئك الذين يقفون عند درجة أقرب إلى الاعتدال. لم تنفع الحملات التخويفية التي نظمها الرئيس الأمريكي، في دفع أعضاء الكونجرس إلى تغيير موقفهم من مسألة رفع سقف الدين. بما في ذلك تلك الصادرة عن مؤسسات دولية كصندوق النقد والبنك الدوليين. لا شك في أن العالم كله سيتأذى من جراء عدم الاتفاق بين الجمهوريين وأوباما، بما في ذلك دول نامية كثيرة، ودول مستثمرة داخل الولايات المتحدة، بأشكال مختلفة. إضافة طبعاً إلى الأضرار المحلية الهائلة، التي بدأت تظهر على الساحة. غير أن الرئيس الأمريكي، يراهن على أن دفع الأمور إلى حافة الهاوية، قد ينقذ الأوضاع من الهاوية. لكن هذا النوع من الممارسة السياسية، بات منذ سنوات طويلة، أشبه بالنكتة القديمة التي سمع بها كل الناس إلا قائلها.
بالطبع لم تبدل ''تخويفات'' وزير الخزانة جاك ليو، في الأمر شيئاً، حتى وإن قال علناً، إن التفوق الاقتصادي لبلاده، يمكن أن يكون عرضة للخطر بسبب الميزانية الحالية، وأزمة الدين التي وصلت إلى طريق مسدود في الكونجرس. وهو يقول ''لا يمكن للولايات المتحدة أن تنظر إلى هذه السمعة المكتسبة بشق الأنفس، على أنها أمر مسلم به''. هذا الكلام ليس صحيحاً تماماً، وكما هو واضح، يلعب أركان إدارة أوباما على الجانب السيادي للولايات المتحدة وسمعتها العالمية. وهم يعرفون أن الوهم الاقتصادي الذي تسيدت به بلادهم المشهد الاقتصادي العالمي، لم يعد وهماً، بل أصبح واقعاً منذ عشرات السنين، حيث صار للوهم نفسه قيمة سوقية! لا يمكن لأي ''وهم'' اقتصادي غير أمريكي منافسته. وعلى هذا الأساس، فإن ''تخويفات'' إدارة أوباما ليست في محلها، خصوصاً أن كل شيء بات مكشوفاً أمام الجميع، بل وكل شيء أصبح معروفاً للجميع.
لم يتبق أمام أوباما، الذي وصفته في مقال سابق بأنه الرئيس الوحيد الذي يشرح أشياء لا يقوم بها، سوى ساعات للتوصل إلى اتفاق مع الكونجرس. وعليه أن يقبل بالعرض المقدم له، وهو رفع سقف الدين لأسابيع محددة متفق عليها. وبدون ذلك فإن الموازنة ستظل عالقة، والولايات المتحدة ستعلن رسمياً أنها لن تستطيع سداد ديونها. هناك تحولات واضحة في معسكر الرئيس الأمريكي نفسه. فحتى أولئك الذي يعتبرون أن الجمهوريين يلعبون سياسة بصورة غير أخلاقية، باتوا يعتقدون أن الاتفاق والتفاهم هما الأفضل لأمريكا. ولا يهم عمق الجرح الذي أصيب به أوباما، الذي سيمضي معه إلى آخر يوم في حياته. الجمهوريون يعرفون أن هذه الساحة هي الميدان الأهم بالنسبة لهم، لتمرير سياستهم الاقتصادية المحلية، بما في ذلك ''عدم تمرير'' نظام الرعاية الصحية. وهم متمسكون بأرض المعركة، التي لا تتهيأ عادة بسهولة.
ورفع سقف الدين لفترة محددة وقصيرة، يبقى أداة الضغط الكبرى في أيدي الجمهوريين، الذين يريدون أن يتفاوضوا حول عديد من القضايا، بما في ذلك الرعاية الصحية والاجتماعية والتشغيل وغيرها من القضايا الخاصة بمكامن المجتمع الأمريكي. لا يمارس أحد في هذه الدنيا السياسة ببراءة. والجمهوريون الأمريكيون يتصدرون الجهات التي لا تعترف حتى بالبراءة من ناحية نظرية لا عملية. فمادية هؤلاء تجعلهم يلعبون سياسة في ساحات لا تتحمل ذلك. لكن حتى هذه السلوكيات، لا يمكن ممارستها إلى ما لا نهاية، إذا ما كانت هناك جهة قوية تتمتع بالحد الأدنى من المؤهلات السياسية المختلفة. ومن سوء حظ الولايات المتحدة والعالم معها، عدم وجود جهة ذات قيمة مضافة أمام الجمهوريين في الولايات المتحدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق