الثلاثاء، 27 أغسطس 2013

إنهم يحبون أن يكرهوا المصارف

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






''من الأفضل ألا يعرف الناس كيف يعمل النظام المصرفي. إن عرفوا ستكون هناك ثورة في صباح اليوم التالي''
هنري فورد الصناعي الأمريكي



كتب: محمد كركوتـــــي

كأن الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون يتحدث عن يومنا هذا أيضاً، حين قال قبل أكثر من قرنين من الزمن ''إن المؤسسات المصرفية تشكل خطراً داهماً على الحريات، أكثر من الجيوش المحتشدة''. قليلون ونادرون أولئك الذين يحبون المصارف. ويمكن القول، إنه لم يظهر (إلى الآن) من تغنى بها، أو على الأقل من لا ينتقدها أو من لا يهاجمها. بعد جيفرسون بمائة عام تقريباً، قدم الأديب الأمريكي الشهير مارك توين توصيفاً ساخراً على طريقته المعهودة، وعميقاً في دلالاته. ماذا قال؟ ''المصرفي هو الشخص الذي يقرضك مظلة في الأيام المشمسة، ويطالبك بها في اللحظة التي تبدأ فيها الأيام الممطرة''. وبعد توين بمائة عام أخرى، كان الكوميدي الأمريكي المعروف بوب هوب أكثر عنفاً، عندما قال ''المصرف هو المكان الذي يقرضك الأموال، بشرط أن تثبت أنك لست بحاجة إليها''. لا أصدقاء مخلصين للمصارف والمصرفيين. فحتى أولئك الذين يستفيدون منها، ينظرون إليها بعين الريبة المستدامة. على طريقة ''أحب أن أكرهك''، أو ''أكره من يحبك''.
احتاجت الحكومات في العالم لفترة طويلة لوضع قواعد للسيطرة على المصارف وألاعيبها. ولولا انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية قبل خمس سنوات، لكان ''الحفل الراقص'' بين الطرفين (الحكومات والمصارف) متواصلاً. فآثام المصارف لم تكن نتاجها وحدها، رغم أنها لا تحتاج إلى منتِج مساعد في هذا المجال. كانت الحكومات تقف إلى جانبها ظالمة أو مظلومة، مع التأكيد على أنها لم تُظلَم، منذ تأسيس أول مصرف في التاريخ (يقال إن أول مصرف كان في بلاد ما بين النهرين). المصارف تفعل كل شيء لتكديس ''الدشم'' المالية في خزائنها. هي لا تُقرض من لا يحتاج القرض فقط، بل تقوم بفرض تكاليف عالية على المقترض وحتى المودع أيضاً. دون أن ننسى أنها تملك أكبر ''المصابغ'' لماذا؟ لـ ''الغسل والكي والتعليق''. في الأشهر القليلة الماضية، دفعت مصارف كبرى مثل ''إتش إس بي سي'' و''ستاندارد تشارترد''، و''باركليز'' ومجموعة لويدز البريطانيتين، و''كريدي سويس'' السويسري، و''آي إن جي'' ومجموعة إيه بي إن أمرو في هولندا، إلى آخر السلسلة.. دفعت مليارات الدولارات غرامات على مخالفات، وتبييض أموال كل شيء، المخدرات، الاتجار بالبشر، المنظمات الإرهابية، والنهب من الشعوب. ولعل العار الأكبر، أن عدداً كبيراً من المصارف الكبرى، استخدمت هذه الأموال القذرة في محاولة إنقاذ نفسها من الأزمة الاقتصادية.
الحكومات في العالم الغربي، وجدت أخيراً أن العار الكلي للمصارف، ينسحب عليها هي نفسها. وفي أعقاب الأزمة، بدأت بوضع تشريعات جديدة، تأخرت في تطبيقها لسبب واحد فقط، هو أن المصارف (رغم المصائب التي أوقعتها الأزمة فيها)، ظلت تمتلك بعض أسلحة المقاومة، لأي قوانين تستهدفها. ومع الضغوط الشعبية - الانتخابية في العالم الغربي، صعدت الحكومات من تحركاتها ليس فقط لإقرار الأنظمة الجديدة، ولكن أيضاً لتنفيذها بأسرع وقت. فالمبررات انعدمت، والحجج انتهت، والأكاذيب نفدت. تريد الحكومات (خصوصاً الإدارة الأمريكية)، أن تعزز صلابة المصارف في حال نشوب أزمة مالية جديدة، من خلال تطبيق قواعد تنظيمية مختلفة، أُطلق عليها اسم ''بازل 3''. ورغم أن مثل هذه القواعد ستعزز وضعية المصارف، بما في ذلك الترفيع في الحد الأدنى من رأس المال، إلا أن المديرين لا يزالون يقاومون. فالقواعد التنظيمية الجديدة، تعني رقابة أكثر تشدداً على أداء المصارف، الأمر الذي يقيد التسيب التاريخي في هذه المصارف. والتسيب في النهاية يعني العمل بأقل قدر من الضوابط، وأدنى مستوى من الأخلاقيات.
على الجانب الأوروبي، بدأت المفوضية الأوروبية التحضير لإطلاق سلسلة جديدة من الأنظمة التي تختص بما يعرف بـ ''مشتقات الائتمان''. وهذه الأخيرة، تمثل بالفعل أرقاً دائماً للسلطات. فعملية نقل مخاطر القروض من جهة إلى أخرى، تُحدث ''تشوهات'' مصرفية. وحين تنفجر أزمة، يهرع المصرفيون إلى الحكومات. إن نقل المخاطر في حد ذاتها عملية فيها من المخاطر الكثير. وفي كل الأحوال، تتضمن الإجراءات التنظيمية الجديدة، وتلك التي ستفرض لاحقاً، عقوبات واضحة على المصارف التي تخالفها، وهذا ما لا يريده أي مصرفي في هذا العالم. فالمصرفيون الذين يجمعون الأموال بكل طريقة ممكنة وغير ممكنة، يسعون في الوقت نفسه، إلى تطويع ما أمكن القوانين العقابية، فكيف الحال بقوانين جديدة، لن تكون رحيمة!
التوجه الغربي الجديد بشأن المصارف، يأتي في الواقع في نطاق حماية كل الأطراف، بما فيها المصارف نفسها. كما أنه يأتي (ولو متأخرا) في سياق ''اعتذار'' كان مطلوباً، على أخطاء الحكومات التي انفجرت في ظلها الأزمة الاقتصادية العالمية. اعتذار للشعوب التي تعرضت للسرقة والتضليل والاحتيال من هذه المصارف، لكنها (يا للمفارقة) كانت المنقذة الوحيدة لها! فكل عملية إنقاذ جرت لمصرف، كانت في الحقيقة، عملية تأميم مؤذية. لأن كل ما أُمم من المصارف كان ركاماً. لقد اشترت الشعوب الممولة للحكومات، ديونها مرة أخرى!

هناك تعليق واحد: