السبت، 17 أغسطس 2013

ألمانيا تنجح بعدم «فزلكة» اقتصادها

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«يجب علي ألا أقلق من الألمان. لقد انتصرنا عليهم مرتين في قرن واحد»
مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة


كتب: محمد كركوتي

كان من الطبيعي أن تتقدم ألمانيا، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدول الأوروبية التي أغرقتها أزمة العام 2008، والتي تعمقت فيها الأزمات الاقتصادية المرتبطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة. لا أحد (بالطبع) يملك قدرة ألمانيا على الإنقاذ، بصرف النظر عن الذل والمهانة الألمانية للطرف الخاضع للإنقاذ. لقد بلغت مشاعر الإهانة حداً دفع بعض أولئك الألمان الذين لا يزالون يعيشون أحلام قوة زالت (بل واندثرت)، إلى الدعوة لاحتلال دولة كاليونان، طالما أن هذه الأخيرة خاضعة لخطة الإنقاذ الأوروبية. وهذه الخطة (بصرف النظر عن أي اعتبارات) هي ألمانية أكثر منها أوروبية. ولولا ألمانيا، فإن بقية الدول الأوروبية الكبرى، وفي مقدمتها فرنسا، لا يمكن أن تطلق خطة إنقاذ عملية وواقعية. ألمانيا في القرن العشرين تسببت في تدمير أوروبا مرتين، لكنها الآن هي المنقذ المثالي لقارة ستظل تعيش تحت ''صواريخ'' الأزمة الكبرى، لأجل ليس قصيراً.
لا يمر يوماً إلا ويطرح السؤال التقليدي. لماذا تمكنت ألمانيا من تحقيق تقدم وازدهار اقتصادي حتى في عز الأزمة؟ وطبعاً هذا السؤال يجر معه أسئلة أخرى، على شاكلته، هل إيطاليا وإسبانيا واليونان (على سبيل المثال) ضعيفة إلى هذا المستوى؟ غير أن السؤال الأهم يبقى هو.. هو، ما هذا ''السر'' الألماني؟! وبالطبع يظهر سؤال آخر على الساحة فوراً. هل تستطيع ألمانيا المضي إلى ما لا نهاية بهذا الزخم الاقتصادي النادر في التاريخ الحديث؟ أين أصابت ألمانيا، وأين أخطأت دول مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها؟ الأسئلة كثيرة، والأجوبة لا تحتاج إلى كبير عناء للوصول إليها. لقد باتت الساحة الاقتصادية العالمية (بعد الأزمة) مكشوفة إلى حد الفضيحة. لا أسرار في هذا العالم، حتى وإن مارست الولايات المتحدة ثقافتها التجسسية، ليس على الأصدقاء فحسب، بل على ما هو مكشوف حقاً!
على كل حال، من بين أسباب الصمود الاقتصادي الألماني، والنجاحات المتتالية حتى في عز ضربات الأزمة، أن الحكومات الألمانية المتعاقبة بعد هزيمة بلادها في الحرب العالمية الثانية، لم ''تتفزلك'' اقتصادياً. وظلت ملتصقة بالاقتصاد التقليدي المنتج، الأمر الذي فتح أمام منتجاتها أسواق، فشلت دول صناعية عديدة في الوصول إليها. وفي الأزمات، لا يصمد إلا الاقتصاد الواضح، وفيها أيضاً تظهر مكامن الضعف في هذا الاقتصاد أو ذلك. ففي الوقت الذي تنكمش فيه اقتصادات دول كاليونان وإيطاليا وإسبانيا وحتى فرنسا وبريطانيا، تسجل ألمانيا نمواً في هذا العام يصل إلى 0,7 في المائة، ومن المتوقع أن تحقق نمواً في العام المقبل يصل إلى 1,6 في المائة. الاقتصاد التقليدي البعيد عن ''الفزلكة''، وفّر لألمانيا مساحة أمان واسعة للغاية. فقد ظلت ألمانيا وفية لحراكها الصناعي (ولا سيما الصناعات الثقيلة والصناعات الميكانيكية). لقد ظل هذا القطاع يشكل 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فيه تراجع دور هذا القطاع في بلدان منطقة اليورو إلى 10 في المائة فقط.
هذا الحراك الإنتاجي، وفّر لألمانيا أسواقاً جديدة. وهذا يعني أن الاقتصاد التقليدي، فتح أسواقاً غير تقليدية، وتحديداً في الدول الناشئة التي تأخذ دورها المتصاعد على الساحة الدولية ككل. على الجانب الآخر، عجزت دول منطقة اليورو أن تفتح أسواقاً قوية لها في البلدان الصاعدة. وقد احتفظت ألمانيا (بالطبع) بأسواقها الأوروبية التقليدية التي تشكل لها أساساً لا يمكن الاستغناء عنه بأي شكل من الأشكال. وطبقاً للخبراء، فإن صادرات ألمانيا إلى الصين تشكل نصف مجموع الصادرات الأوروبية إلى هذا البلد، وقد وصل التصدير الألماني للدول الصاعدة إلى ما يوازي 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين لا يتعدى الـ 1,2 في المائة في فرنسا! ولعل من أهم عوامل النجاح الألماني المستمر، أن الشركات الألمانية تقوم بإنتاج ما تحتاج إليه الأسواق في العالم. ومثالاً على ذلك، يقول ألكسندر شومان، رئيس اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانية: إن آلات ومعدات البنى التحتية، وتقنيات الطاقة، كلها مهمة جداً، للدول التي تتجه حالياً إلى تحديث نفسها، وتريد أن تتطور بسرعة. وكل ما تحتاج إليه تلك الدول لهذه العملية يمكن لألمانيا أن توفره من الآلات الثقيلة حتى البراغي''.
الذي حدث أيضاً أن دولاً مثل بريطانيا وإسبانيا ركزت بصورة كبيرة جداً على قطاعات الخدمات والاستثمارات المصرفية والعقارات، في حين لم تعط الشركات الألمانية هذه القطاعات أكثر مما تستحق، واحتفظت بذهنية الاقتصاد الوطني التقليدي، ولم تعتمد 100 في المائة على أدوات ما يعرف بـ ''الاقتصاد الجديد''. لم تنجح ألمانيا بنشاطها الصناعي فقط، ولكنها نجحت أيضاً في تفادي الشوائب والمخاطر التي يأتي بها ''الاقتصاد الجديد''. ستظل ألمانيا المحور الرئيس لمنطقة اليورو، وستتحمل دول هذه المنطقة، الإهانات الألمانية، لأن خياراتها الإنقاذية ليست سوى ألمانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق