الأحد، 29 مايو 2011

فساد متمأسس في بلد بلا مؤسسات











"الرجل الذي يكون أول الصارخين حرامي.. حرامي، غالباً ما يكون سارق الخزنة"
وليام كونجريف كاتب وأديب إنجليزي



محمد كركوتــي

في خطابه الباسم (بل والضاحك) الأول الذي ألقاه أمام ما يسمى بمجلس الشعب، في أعقاب اندلاع الثورة، "أصر" رئيس السلطة السورية بشار الأسد، على أنه لا رجوع عن عزمه على محاربة الفساد في البلاد والقضاء عليه. ضحك –وقتها- كثيراً إلى درجة أنه يمكن أن تتخيل نفسك، في أحد عروض "وان مان شو" أو One man show التي تزخر بها القنوات التلفزيونية الغربية، والتي تعتمد النكتة والفكاهة المحور الوحيد لها، لاسيما مع التصفيق المتواصل لجمهور "ممثلي" الشعب، بمن فيهم، "الممثل" الذي "حسم" الأمر، بأن سوريا أصغر من أن يحكمها الأسد الابن، وأن مصلحة العالم أجمع، هي أن يكون حاكماً للعالم نفسه!

في كل مرة ضحك فيها في خطابه، ودماء المدنيين السوريين الجارية لا تزال ساخنة، كان يصر على محاربة الفساد، ليبلغ "الممثلين" بأن إصراره ليس وليد الثورة، بل يعود إلى زمن وصوله إلى الحكم قبل 11 سنة، وارثاً الجمهورية والشعب معها. ضحكات "القائد"، مع التصفيق مع الأشعار الرديئة مع الكلمات الارتجالية البائسة مع وقوف "الممثلين" إجلالاً وإكباراً لكل كلمة تفوه بها هذا "القائد"، أزاحت التفسير الذي يطلبه الشعب ( والعالم الذي يراقب) من هذا الأخير، للفساد وقوته، وللسرقات وانتشارها، وللنهب ومؤسساته. في ظل هذا المشهد المريع، تم تلخيص الحرب التي أعلنها الأسد الابن على الفساد، بأنها تهدف إلى ردم الفجوة بين المؤسسات الحكومية والشعب، وبعبارة أخرى، تصحيح أخطاء إدارية، ناجمة عن تجاوزات موظفين حكوميين غير مسؤولين، لم يكن "القائد" على علم بها أصلاً! ببساطة، لقد أُفرغ توصيف الحرب من محتواه، حتى قبل أن يُنهي الأسد خطابه في ذلك المجلس الذي لم يشهد وقوف "ممثل" واحد يلفت انتباهه إلى ملاحظة سلبية واحدة. فقد كان الممثلون (وكلهم كومبارس) مشغولين بترديد الهتاف المُعيب "الله سوريا بشار وبس"! ولا أشك في أنهم كانوا يرددونه مقلوباً في قلوبهم. ولو استطاع هؤلاء أن يزيلوا لفظ الجلالة لفعلوا. كما أنني لا أشك في أنهم فكروا في إزالة اسم سوريا من الشعار البائس، لكنهم وجدوا أن "القائد" يحتاج إلى جمهورية يحكمها، فابقوا على اسم البلاد، لضرورة القيادة!

مع إعلان "الحرب" على الفساد، تذكرت واحدة من مقولات الناشطة الاجتماعية البولندية-الروسية إيرنستين روز. ماذا قالت؟ : "عندما يأتيني شخص يحاول إقناعي بأنه ليس سارقاً، أقوم على الفور بحمايتي نقودي". ومعها قال الأديب الأميركي إدوارد هاو "السارق يعتقد بأن الجميع سارقون". فور إعلان "الحرب"، طُرحت في خاطري تلك المقاربات المتعارضة –إن جاز التعبير- من نوع، كيف يمكن لزعيم المافيا أن يتولى قيادة حملة ضد الجريمة المنظمة؟! وكيف سيكون الحال لو تولى الزعيم النازي أدولف هتلر مسؤولية الحرب على العنصرية؟! وكيف سيكون الأمر لو قاد الكوبي فيدل كاسترو جمعيات الصداقة مع الولايات المتحدة الأميركية؟! وكيف سيكون المشهد لو تزعم الإسرائيلي المغمى عليه أرييل شارون حملة لقيام الدولة الفلسطينية؟! هل يمكن تسليم جزار البوسنة والهرسك راتكو ملاديتش مهمة التحقيق في المجازر التي حدثت هناك، والقبض على مرتكبيها؟!

الحقيقة أن الفساد في سوريا، ليس الفساد الإداري الذي حاول "القائد" أن يسوقه وهو في غمرة صدمته من الثورة الشعبية وذهوله من تداعياتها، ولا ينحصر في الفجوة بين المؤسسات الحكومية والشعب، ولا يرتبط بتجاوزات موظفين فاسدين أو انتهازيين أو مرتشين. فهذا النوع من الفساد موجود بنسب متفاوتة بسيطة حتى في الدول الراشدة، مع التأكيد على أنه لا يستمر لفترات طويلة في هذه الدول، بسبب آليات المحاسبة الصارمة، المفقودة منذ قرابة نصف قرن من الزمن في سوريا، وبقية الدول غير الراشدة. لقد ألغى الفساد في سوريا المؤسسات، ومأسس نفسه. إن الفساد المطلق يفرض بصورة طبيعية مطلقة آلياته و "أديباته"، التي تلغي أوتوماتيكياً معايير الأخلاق. هذا النوع من الفساد، يزيل إلى الأبد (على وزن قائدنا إلى الأبد "الأمين" حافظ الأسد) مقومات المجتمع. ليس مهماً وزن الفاسد، لأنه وفقاً لمعايير "الفساد المؤسسي" فإن اللصوص الكبار يقودون مسيرة اللصوص الصغار، والسارق الصغير هو في الواقع موظف (بدون عقد عمل) عند السارق الأكبر. الرابط بينهما هو مفهومهما المتطابق للسرقة، وإيمانهما العميق بأن السرقة هي الرافد الأوحد في ساحة أُفرغت من القيم الأخلاقية والإنسانية. والمريع في المشهد السوري، أن "القائد" روج منذ وراثته للجمهورية والشعب، لما اصطُلح على تسميته "الاقتصاد الاجتماعي"، لكن في الحقيقة كان اقتصاداً نادراً، استحق عن جدارة توصيف "اقتصاد التشبيح"، بعد أن مر على مدى 41 سنة بالمراحل التالية : اقتصاد التفقير (فترة حكم الأسد الاب)، واقتصاد الفقر، واقتصاد ما دون الفقر، في فترة الوارث الذي "صغرت" عليه سوريا ليحكمها!

في مقالي السابق الذي نُشر بعنوان "إكرامية الممانعة 40 مليار دولار"، أشرت إلى أن "اقتصاد التشبيح"، حصر مقدرات البلاد في أيدي مجموعة قليلة من الأسر، في مقدمتها الأسرة الحاكمة- المالكة، بينما حصر "اقتصاد التفقير" هذه المقدرات بأيدي مجموعة من الأشخاص، غالبيتهم من الأسرة الحاكمة، ولا بأس من شخصيات أخرى خارجها لضرورة المشهد. والمثير أن الأسر نفسها شهدت في السنوات الماضية، صراعات على ثروات منهوبة، وعلى نفوذ تجاري واقتصادي واستثماري وخدماتي. فقد ظهر واضحاً أن الصراعات ليست محصورة بين المنهوبين والناهبين، هذا إذا امتلك المنهوبون القدرة على الصراع أصلاً. فعلى سبيل المثال، "قلم" رامي مخلوف (ابن خال الأسد الابن) والمعروف بـ "مصرفي" العائلة الحاكمة- المالكة، أظافر الأقارب، بمن فيهم أقارب "القائد" من الدرجة الثانية ( أولاد العم). وعملية التقليم هذه لم تكن تهدف إلى وضعهم خارج دائرة النهب، بل هدفت إلى تحديد المستوى المسموح لهم بالوصول إليه في عمليات السرقة ووضع اليد والاقتناص القسري. بمعنى آخر، تحديد عدد المليارات التي يُسمح لهؤلاء بنهبها. مخلوف الذي يسيطر على 60 في المائة من الاقتصاد السوري، اتبع كل شيء من أجل تكديس الأموال، بما في ذلك عمليات الاحتيال التي طالت مجموعة كبيرة من المستثمرين العرب والأجانب، الذين دخلوا سوريا بحثاً عن استثمارات مربحة، ليخرجوا منها راضين بالخسائر، بدلاً من قبولهم مخاطر تهدد حياتهم. وقصة رجل المال المصري نجيب ساويرس، الذي سرق منه "مصرفي" العائلة الحاكمة، أكثر من 70 مليون دولار أميركي، لا تزال تتردد في العلن. ولم تنفع الرسائل المفتوحة التي وجهها ساويرس إلى بشار الأسد لاستعادة أمواله.

كيف يمكن لرأس السلطة في سوريا أن يقود حرباً حقيقة على الفساد؟! كيف يمكن له أن يزيح الأسر التي ملَكها مقدرات البلاد من طريق الأمة؟! إن أول الخاسرين في هذه الحرب سيكون هو شخصياً. ولأنه وضع هذه "الحرب" الوهمية ضمن نطاق البرنامج الإصلاحي الذي أعلنه نتيجة للثورة، فإن قيادة هذا النوع من الديكتاتوريات لعمليات الإصلاح، تعني سقوطها على الفور. على بشار الأسد أن يتحمل تبعات ورثة لم تكن من حقه، ولن تكون من حق أي فرد آخر في سوريا.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق