الاثنين، 9 مايو 2011

سوريا.. اقتصاد الفقر أو ما دونه

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")









"الطغاة كالأرقام القياسية، لابد من أن تتحطم في يوم من الأيام"
محمد الماغوط كاتب وشاعر سوري

 
 
 
 
محمد كركوتــي
 
عاش الشعب السوري (ولايزال)، بين رحى اقتصادين اثنين لا ثالث لهما. الأول سَحق ببطء حتى ما بعد الرمق الأخير، والثاني طَحن بسرعة حتى ما بعد النهاية. الاقتصاد الأول الذي ابتكره حافظ الأسد، حوَل الشعب بأكمله، إلى رعية لا تستحق العيش، إلا من أجل استكمال الصورة، أو المعادلة. أي أن وجود القائد المُلهَم، لا يستمر إلا بوجود شعب يعيش على كرم القائد، لا على مقدرات ومكتسبات الشعب نفسه. فإذا حصل فرد من أفراد هذا الشعب على حفنة من الرز، فهذا يعني أن القائد ليس ملهَماً فحسب، بل هو مجبول بالرأفة والكرم والحنان! وإذا حصل تلميذ على كتاب مدرسي مجاني، هذا يعني أن أبوة القائد، طافحة بصورة لا يمكن السيطرة عليها! وإذا تمكن مواطن من الحصول على علبة دواء لابنته المريضة، هذا يؤكد "تسونامية" إنسانية القائد! بدون القائد الملهَم، لا حياة في الحياة نفسها، ولا مستقبل للغد، ولا ماض للأمس. ولو كانت لحافظ الأسد القدرة على امتلاك الحياة فيزيائياً، لنظم توزيع الأوكسجين إلى رئات الشعب، في مهرجان من الكرم على مدار كل الدقيقة. كان الاقتصاد السوري في عهد الأسد الأب، اقتصاد التفقير، تمكن من خلاله أن يربط لقمة المواطن ودوائه وتعليمه وتفاصيل حياته، به شخصياً. وعندما يكون الأمر على هذا الشكل المريع، يكون وصول الإنسان إلى العزة والكرامة، بنفس سهولة الوصول إلى الفوهات السوداء في عمق الكون!

لم يخرج الشعب السوري من اقتصاد التفقير، إلا ليدخل في اقتصاد ما دون الفقر. وهو اقتصاد مبتكر، تمأسس فيه الظلم والحرمان، بعدما تمأسس الفساد والنهب والسرقة، بصورة دفعت حتى الجهات الدولية المحايدة، إلى "ممارسة" الدهشة كلما استعرضته، وإلى "هز رأسها" حيرة وصدمة، كلما تعاطت معه. فبعد أن ورث بشار الأسد الابن الجمهورية والشعب في آن معاً من والده، وجد أن الأوقات تتغير بشكل يصعب معها استمرار اقتصاد البلاد تحت مظلة هائلة من الفساد الفردي. وفي هذه الحالة لم يجد أمامه سوى مأسسة الفساد، للتناغم مع التطورات المحلية والدولية. فالمؤسسة الفاسدة توفر أجود أنواع الحصانة لكل شيء مشين، كما أنها تعطل أو تؤخر، وفي بعض الأحيان تحمي إلى الأبد، الفاسدين أو الناهبين أو السارقين أو المختلسين، إلى آخر المفردات المشينة التي تنتهي بـ "بالياء والنون". في مقالي السابق الذين نُشر بعنوان (في سوريا كل شيء قابل لـ "البزنس")، قلت: "في مرحلتي الأسد الأب والابن، تاهت سوريا، بين اقتصاد مغلق من دون باب، وبالتالي لا معنى لوجود ملايين المفاتيح، واقتصاد بباب مغلق، له مفاتيح قليلة جداً، في أيدي أشخاص قليلين جداً، 'عُينوا' في مناصب رجال أعمال". في ظل الاقتصاد الثاني، وبعد أن أحكم رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد قبضته على اقتصاد البلاد، وسيطر على 60 في المائة من الحجم الكلي لهذا الاقتصاد، وصلت سوريا إلى أدنى المستويات العربية والعالمية، في كل شيء تقريباً، بما في ذلك الأمن والأمان. فكثيراً ما نسمع تصريحات لمسؤولين في السلطة السورية، يفاخرون بأن البلاد تتصدر المراتب الأولى في الأمان الشخصي. وهذا طبعاً قبل أن تجند السلطة القناصة في قلب المدن السورية، لاصطياد البشر.

ووفقاً لمنظمة الشفافية الدولية، فقد تصدرت سوريا في تقرير المنظمة السنوي قائمة الدول العربية الأكثر فساداً على الإطلاق. من تفوق عليها في الفساد على الصعيد العالمي؟ لنتأمل قليلاً هذه الدول: الصومال وأفغانستان وايران وليبيا واليمن وهايتي والكاميرون وساحل العاج والنيبال والباراغواي. لا عجب، فكل هذه الدول لم تعش في التاريخ المعاصر إلا فساداً. حتى تونس ومصر اللتان اعتمدتا الفساد كـ "خيار استراتيجي" في عهد المخلوعين زين العابدين بن علي وحسني مبارك، تقدمتا على سوريا بأشواط طويلة جداً في النزاهة. ولأن السلطة في سوريا (ولا أقول النظام، لأن النظام فقد توصيفه مع مقتل أول مدني على أيدي قوات السلطة)، تشكك بكل شيء، فأنا أنقل هنا عن دراسة محلية سورية للدكتور فريد خليل الجاعوني من كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، نُشرت العام الماضي، أثبت فيها أن سوريا تحتل المرتبة الـ 19 في مكافحة الفساد، في قائمة الدول العربية التي يبلغ عددها 22 دولة! وفي العام الماضي، احتلت سوريا (وفقاً لإحصائية لموقع "هيرتيج" المتعاون مع صحيفة "وول ستريت جورنال" الاقتصادية الأميركية) المرتبة 140 في قائمة ضمت 180 دولة، فيما يرتبط بالحرية الاقتصادية. وحسب الإحصائية، فقد جاءت سوريا بعد كل من جيبوتي وموريتانيا!

لن أتناول هنا، مؤشر حرية الصحافة التي بلغ فيه ترتيب سوريا 165 من أصل 175، ولا مؤشر الديمقراطية التي احتلت فيه المركز 152 من أصل 167 دولة، وتقدمت عليها كل من أفغانستان وكوبا وأريتيريا والإمارات والبحرين والكويت. ولا مرتبتها في عدد مستخدمي الانترنت التي بلغت 128 من أصل 215 دولة، ولا عن جامعة عريقة كجامعة دمشق التي بلغ ترتيبها عربياً 75 وعالمياً 5900، ولا من مستوى الأمان، حيث "تمكنت" سوريا من احتلال المركز 115 على مستوى العالم، وتقدمت عليها الغالبية العظمى من الدول العربية. في عهد اقتصادي التفقير (الأب) والفقر أو ما دونه (الابن)، انغمست سوريا في حالة ممانعة للتنمية والتطور، وتصدت لأي شكل من النمو التلقائي. لماذا؟ لأن اقتصاد التفقير والفقر، صاحبه "اقتصاد الأسرة"، التي جيرت مصالح أمة بأكملها، لتختصرها في مجموعة من الأشخاص، يقررون مصيرها نيابة عنها في كل شيء. أشخاص قرروا أنهم يعرفون مصلحة الفرد أكثر منه، بل ووضعوا هذه "المعرفة" ضمن نطاق مؤسسي!

في اقتصاد الفقر أو ما دونه، بلغت نسبة السوريين الذين لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم الأساسية 35 في المائة، وهؤلاء يعيشون –حسب المعايير العالمية- تحت خط الفقر في حده الأعلى، وهناك 13 في المائة يعيشون في فقر مدقع، أي أنهم لا يستطيعون تلبية أياً من احتياجاتهم الأساسية. وفي هذا الاقتصاد، هناك 49 في المائة من السوريين دون الثلاثين من أعمارهم عاطلون عن العمل. وتصل نسبة البطالة الكلية إلى 22 في المائة. وطبقاً لمحللين مستقلين دوليين –غير مندسين أو متآمرين- فإن انتشال أولئك الذين يعيشون تحت خط الفقر، لا يحتاج إلا إلى 200 مليون دولار أميركي فقط. لكن الواضح، أن اقتصاد ما دون الفقر، يعجز عن توفير هذا المبلغ، على الرغم من أن دخل سوريا من النفط لوحده يصل إلى 3 مليارات دولار أميركي. وإذا قبلنا بالحجج التاريخية، بأن أموال النفط تذهب إلى التسلح، لمقاتلة العدو الذي يجلس هادئاً آمناً عن الطرف الآخر من الحدود، فإن جزءاً بسيطاً جداً من عمولات الأسلحة، تكفي ليس فقط لانتشال الفقراء من فقرهم المدقع، بل أيضاً لتشغيل مئات الآلاف من العاطلين عن العمل. أليس اقتصاد الفساد الموازي للاقتصاد الوطني في عهد الأسد الأب، الذي تقدم على "الوطني" في عهد الأسد الابن، جزء لا يتجرأ من الاقتصاد الكلي للبلاد؟ ليمنح الذين أُفقروا قسراً، شيئاً من مسروقاتهم.

هناك 3 تعليقات: