الأربعاء، 11 مايو 2011

الإعلاميون التلقائيون

(المقال خاص بمجلة "جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج")










"الصحافة هي المسودة الأولى للتاريخ"
أحد الصحافيين المجهولين




محمد كركوتــي

لا شيء يقف أمامهم. لا السلطات ولا القوانين ولا الإجراءات. لا شيء يعطل نشاطهم وحراكهم، مهما كانت الظروف قاسية. بل إن حراكهم لا يتفاعل بصورة كبيرة إلا في الظروف الصعبة والقاسية. إنهم يقفون –بدون أن يعلنوا ذلك- في وجه قانون صارم، أو قيود تكتسب في الكثير من الأحيان صفة الحديدية. إنهم يقدمون الحقيقة كما هي، بدون رتوش أو عمليات تجميل أو مقصات القطع، أو أقلام الشطب. هم لا يعرفون المقاييس المهنية، إلا أنهم يفهمون المقاييس الواقعية، ويؤمنون بأن هذه الأخيرة، تلغي كل الاعتبارات والتأويلات و"الفذلكات" المهنية. لماذا؟ لأنهم ينقلون الحقيقة كما هي، لا كما يُراد لها أن تكون. هم يعترفون بأن ما ينقلونه عن طريق الاحتيال على القوانين الصارمة، غالباً ما يكون صادماً ومؤثراً ومبكياً، لكنه في النهاية، هو الواقع الذي يستحيل تجاهله، ويصعب الادعاء بعدم وجوده، وبالتالي لا يمكن الهروب منه إلى الأبد. فهذا الواقع هو في الحقيقة تاريخ معاش، لا يلبث أن يتحول إلى تاريخ معاصر، وبعدها إلى تاريخ من حق الأجيال القادمة أن تعرفه وتدرسه، وتستخلص العبر منه. هو حق للبشرية جمعاء، لأنه بشري التكوين، سلوكياً وإنسانياً وأخلاقياً. ومهما بلغت الآلة المانعة له من قوة، فإنها ليست قادرة على ممانعته حتى النهاية. فالحقائق، قد تؤجل، لكنها لا تُمحى، والواقع قد يُهمش، لكنه لا يُزال. ويسجل التاريخ، قيام قوى (قيل أنها لا تقهر)، بإزالة الحقائق وتدمير الواقع، لكن أدوات الحقيقة كانت أقوى، وآليات الواقع كانت أشد، من أن تزول عن الساحة، وتُمحى من الذاكرة. وفي التاريخ الحديث، فعل ذلك النازي الألماني أدولف هتلر، والفاشي الإيطالي بيتينو موسوليني، والشيوعي السوفييتي جوزيف ستالين. لكن الحقائق، وضعت كل واحد من هؤلاء في المكان الذي يستحقه من التاريخ.

هؤلاء الذين لا يقف شيء أمامهم، ليسوا سوى أشخاص عاديون، أرادوا أن يمارسوا الإعلام التلقائي –إن جاز التعبير- عن غير قصد في أغلب الأحيان، من خلال نقلهم للأحداث في أماكن يصعب وصول الإعلاميين المهنيين إليها، في وقت الأزمات وغيرها، وفي أزمنة المحن والمصائب. إنهم "المراسلون التلقائيون"، المتسلحون بأقل الهواتف تطوراً، وأكثر الأحداث تلاحقاً. ليس مهماً أن تكون كاميراتهم عالية الجودة، المهم أن تكون الصورة من قلب الحدث، لاسيما في المواقع التي يفرض عليها حصار إعلامي، يجرم الصحافي- المراسل، كما يجرم المجرم القاتل. وإذا كان بالإمكان تحديد عدد الصحافيين – المراسلين حول العالم، فإنه يستحيل الوصول حتى إلى عدد تقريبي لهؤلاء. فكل من يحمل هاتفاً نقالاً بكاميرا بسيطة، هو في الواقع مراسل. وفي الأحداث الجسيمة، مثل تلك التي يشهدها غير بلد عربي، يقدم المراسل التلقائي، خبطة في كل لقطة، ويعرض على العالم، الحقيقة بعمقها وألمها وتأثيرها. وفي حوار تلفزيوني أُجري معي على قناة "الحرة"، طُرح موضوع الإعلام في ظل منع المراسلين من العمل في بعض الدول التي تشهد أحداثاً جسام. وأتذكر أنني قلت: "علينا أن نعترف ببعض الفضل لحكومات هذه الدول، لأنها عندما تمنع مراسل من دخول البلاد أو العمل فيها، فهي توفر أرضية لكي يعمل ألف مراسل تلقائي". إذا كانت تستطيع أن تمنع مراسلاً قادماً إلى البلاد بأوراقه ومعداته من الباب، فإنها ستفشل حتماً في منع المئات –وربما الآلاف- من المراسلين التلقائيين الذين يعملون تحت الأرض وفوقها، ولا يحتاجون لأبواب أو حتى نوافذ للولوج منها.

يقول الكاتب والصحافي الأميركي جون هيرسي: "الصحافة تسمح لمتابعيها ليكونوا شهوداً على التاريخ، والرواية تمنح متابعيها الفرصة لكي يعيشوا فيها". وفي غمرة الأحداث الجارية على الساحة العربية، قال مراسل صحافي يعمل في لبنان لإحدى وسائل الإعلام الأجنبية :"إن عملنا الصحفي صار عبارة عن نفايات لا قيمة له"، لماذا؟ لأن الهواتف النقالة المزودة بالكاميرات، التي يحملها الملايين، تزود مواقع الانترنت المتخصصة وغير المتخصصة بالأحداث المصورة لحظة بلحظة. ويقول هذا الصحافي :"لم يعد الأمر يقتصر على تسريب معلومات من السهل القول إنها محض شائعات أو حتى افتراءات، عندما لا نرى آثارها على أرض الواقع، بل صارت المعلومات مدعمة بصور فيديو من الهواتف، تُبث على الانترنت وتتلقفها القنوات التلفزيونية بسرعة تتجاوز الزمن اللازم لتحرك المراسل على الأرض للتحقق من حصولها". هذا إذا سُمح أصلاً للمراسل بالوصول إلى موقع الحدث. والحقيقة أن عشرات القنوات التلفزيونية خصصت ساعات بثها كلها، لفيديوهات المراسلين التلقائيين، بينما اعتمدت قنوات مهنية شهيرة عربية وأجنبية عليها في نشراتها الإخبارية، لكي تُملئ النقص المريع في المادة المصورة لديها.

وحتى في زمن الهدوء، وسماح السلطات في بعض الدول، لعدد محدود من المراسلين في العمل على أراضيها، اتبعت بعض القنوات المتطورة، نظاماً يمكن أن يطلق عليه اسم "المراقبون" أو "المتابعون"، وهو يقوم على تعاون هذه القنوات، مع أشخاص عاديين يُمنحون هذا التوصيف، عن طريق تزويدها بتسجيلات وصور ومقاطع فيديو وشهادات، تدعم القضايا التي تطرحها القنوات المذكورة، وفي بعض الأحيان، تساعد المواد الآتية من المراسلين التلقائيين، المشرفين على القنوات بطرح قضايا جديدة وبأبعاد جديدة وواقعية. أما في زمن الأزمات والأحداث –لاسيما المأساوية المتلاحقة- فإن الأمر يصبح أكثر إلحاحاً بالنسبة للقنوات التلفزيونية كلها. ولأن المراسلين التلقائيين يوفرون مادة خام مائة بالمائة، فقد تحولت القنوات التي تضطر لاستخدام هذه المادة، والتي تتبع معايير البث المهني، إلى صالات لتحرير المادة وانتقاء ما يصلح منها للبث. وهي في ذلك لا تواجه مشاكل، لأن المادة حجم المادة المتوفرة كبير جداً، لا يمكنها حتى احتوائه.

لقد كرست الأحداث المتفاعلة على الساحة العربية، حقيقة أن الإعلام ليس حكراً على الإعلاميين، وأنه قطاع مفتوح لكل من يرغب في المساهمة فيه، خصوصاً فيما يرتبط بنقل الأحداث تلفزيونياً. صحيح أن هناك معايير مهنية، ليست متوافرة عند المراسلين التلقائيين، ولكن الصحيح أيضاً، أن المادة الخام التي يصعب توفرها، لا تترك مجالاً لعمل الإعلاميين الحرفيين. يضاف إلى ذلك، أن الوسيلة الإعلامية هذه أو تلك، ليس بمقدورها أن تتواجد في كل مكان، مهما بلغ شأنها وقدرتها على تجنيد المراسلين العاملين فيها، الأمر الذي يدفعها للجوء إلى "إنتاج" المراسلين التلقائيين، حتى في الأزمنة والأمكنة المستقرة، فكيف الحال بالأزمنة والأمكنة المضطربة؟

استطاع المراسلون التلقائيون، أن يتجاوزا كل الحواجز، وأن يعززوا دورهم في نقل الحقيقة كما هي، وأن يكونوا شهداء موَثقون للتاريخ. استطاعوا أن يعملوا في أماكن مليئة بالعيون ولكنها لا ترى، وأن يعيشوا أوقاتاً تشهد أحداثاً (مرعية في غالبيتها). احتل هؤلاء مكان "الشاهد الملك"، في أماكن مُنع فيها الشهود. أماكن، حاول المسيطرون عليها، أن يقنعوا العالم بأن ما يجري من أحداث جسام، ليست سوى مهرجانات "شم النسيم"، مليئة بالفراشات والطيور الجميلة. أراد المسيطرون أن يقولوا للعالم: لا تصدقوا من يقول لكم إن هناك جثثاً على قارعة الطريق، وهناك أنيناً في الزوايا، وهناك مصائب في الأرجاء!

لم يبدأ عصر المراسلين التلقائيين بالأمس، لكنه كرس وجوده أكثر، مع كل حصار إعلامي، وكل منع لصحافي. هؤلاء لا يصنعون الحدث، إنهم يوثقون لتاريخ، أراد البعض له أن يكون بلا أيام وبلا أحداث وبلا وقائع، بل.. وبلا ضمير.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق