الاثنين، 2 مايو 2011

في سوريا كل شيء قابل لـ "البزنس"

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"الظلم في أي مكان، يهدد العدالة في كل مكان"
مارتن لوثر كينج زعيم حركة الحقوق المدنية الأميركية

 
 
محمد كركوتــي
 

على مدى 41 عاماً، انتقل الاقتصاد السوري من مرحلة الفساد الفردي في عهد حافظ الأسد، إلى مرحلة الفساد المؤسسي في عهد بشار الابن. وفي المرحلتين، تاهت البلاد، بين اقتصاد مغلق بدون باب (وبالتالي لا معنى لوجود ملايين المفاتيح)، واقتصاد بباب مغلق، له مفاتيح قليلة جداً، في أيدي أشخاص قليلين جداً، "عُينوا" بمناصب رجال أعمال. وقد احتلت سوريا المراكز الأولى في قائمة الدول التي تمنح مثل هذه المناصب! فهي سبقت مصر وتونس بمراحل عديدة في هذا المجال. وكما كانت أول الدول العربية (وغالباً آخرها) في توريث الجمهورية للابن (والثانية على مستوى العالم بعد كوريا الشمالية)، كذلك كانت الأولى عربياً، في تعيين رجال أعمال يحملون حقائب أقوى من الحقائب الوزارية، بل وأقوى من "حقائب" نواب الرئيس أنفسهم! وإذا كان هذا الأخير يملك مفاتيح خزائن البنك المركزي، فإن هؤلاء ملكوا (ويملكون) خزائن مقدرات البلاد كلها. والحقيقة، أن ملكية البنك المركزي، هي متوارثة أيضاً من الأب للابن. فكلنا يتذكر ما ورد في أحد كتب وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس (التي لا نعرف من يكتبها له)، بأن حافظ الأسد طلب أموالاً من محافظ البنك في منتصف الثمانينات، كثمن يدفعه لشقيقه رفعت الأسد، مقابل أن يتوقف هذا الأخير عن محاولاته لعزله. وقد فوجئ المحافظ بأن الثمن الذي طلبه رفعت، أعلى كثيراً مما هو موجود في خزائن البنك، فما كان لحافظ الأسد إلا أن يطلب من سفاح ليبيا معمر القذافي، تسديد الفارق، وقد لبى هذا الأخير الطلب.

على كل حال، مع المأسسة في عهد الأسد الابن، تحول الفساد إلى قطاع تجمعت في ظله كل القطاعات، بما في ذلك تلك المرتبطة بالتنمية، التي ظلت في ذيل قائمة الحراك الاقتصادي. فقد بلغ الفساد حداً، بات من المستحيل فصل المال العام عن الخاص، بصرف النظر عن مصادر هذا المال الخاص. وصار رجال الأعمال المعينون، هم المالكون الوحيدون لمقدرات البلاد، وأصبحت –على سبيل المثال لا الحصر- العوائد النفطية سراً من أسرار الدولة، ومصير المساعدات التي تصل إلى البلاد من القضايا المرتبطة بالأمن القومي، وحتى وكالات الشركات الأجنبية مهما صغرت، يتم التعاطي معها بصورة حصرية. بعضها محصور بأشخاص معينين بشكل مباشر، وبعضها الآخر محصور بنفس الأشخاص بشكل غير مباشر. ومع انطلاق مرحلة مأسسة الفساد، برز التحالف المريع بين السلطة وكبار التجار التقليديين، الذين يندرجون ضمن نطاق الرأسمالية الوطنية. وعلى الرغم من أن هذا التحالف، قام على مبدأ الندية، إلا أنه لم يستمر على هذا الشكل. شيئاً فشيئاً، تحول الرأسماليون الوطنيون إلى حليف هش، يقبلون بالفتات مقابل الاستمرار على الساحة الاقتصادية، حتى أصبحت غالبيتهم مجرد شركاء رمزيين. وقد قبلوا بهذه الوضعية المهينة، ليس لأنهم يخشون الاقصاء –وهذا وارد دائماً- ولكن من جراء عمليات تخويف، يقوم بها رجال الأعمال الجدد، بأنه إذا سقط النظام، سيسقط بالضرورة رجال أعماله معه، وبالتالي، فإن المجازر وعمليات الانتقام، ستطال التجار في غمرة الأحداث. ومن هنا، فإن هذا التحالف المريع، قام على الخوف والإرهاب، أكثر من قيامه على المصالح المشتركة. فالذي لم يكن يرضى من التجار الكبار بدخل يومي أقل من عشرة ملايين دولار أميركي، قبل مرتعداً بأي دخل كان للنجاة التجارية والشخصية أيضاً!

هذا الإرهاب الاقتصادي، وفر لنظام الأسد الابن، واحدة من آليات البقاء والاستمرار، إلى جانب موجات التخويف الوهمية للأقليات في سوريا، بأن زواله يعني القضاء عليها، وأنه يمثل الحماية الواجبة لها، وأن أي بديل آخر له، لن يكون أقل وحشية من النازي الألماني أدولف هتلر، والفاشي الإيطالي موسوليني. مارس نظام الأسد الابن هذا التخويف-الإرهاب، وبصورة علنية، أكثر مما مارسها نظام الأسد الأب. فقد وفر الانغلاق الفظيع لهذا الأخير، ضمانة هادئة وقوية على هذا الصعيد، بعد أن درس وطبق بجودة عالية، نفس المعايير الكورية الشمالية الاستبدادية، بينما لا يوفر –حتى الانفتاح المنظم- هذه الحصانة لنظام الأسد الابن.

في سوريا كل شيء قابل لـ "البزنس" (بما في ذلك القضايا السياسية)، شرط أن يكون "المستثمر" – والأصح المستحوذ- واحداً من رجال الأعمال المُعَينين. أقول كل شيء، أي انطلاقاً من مصنع صغير لإنتاج العلكة (اللبان)، إلى الاتصالات والنفط ومشاريع البنى التحتية والوكالات الأجنبية والنقل والعقارات والإنشاءات والسياحة والطيران وتجارة التجزئة والمدارس الخاصة. وحتى قطاع التاكسي! وتكفي الإشارة هنا، إلى ما يمكن وصفه بـ "مدير عام رجال الأعمال المُعينين" رامي مخلوف ابن خال الأسد الابن (ونجل القائد السابق للحرس الجمهوري) بأنه يسيطر على ما يقرب من 60 في المائة من حجم الاقتصاد السوري الكلي، وذلك من خلال شبكات معقدة من الشركات القابضة، وله استثمارات يصعب حصرها، بسبب السرية المحكمة عليها في كثير من الدول، من بينها الإمارات ولبنان وألمانيا وأوكرانيا وبلجيكا واسبانيا وسويسرا وانجلترا ورومانيا. بل يمتلك استثمارات كبيرة في دول مثل السودان وليبيا وباكستان واليمن. والحقيقة أن أحداً من الدائرة الضيقة في نظام الأسد الابن، لم يُكذب ولو لمرة واحدة، أي تقديرات على حجم الأموال والاستثمارات التي تعود إلى مخلوف. وتؤكد مصادر معارضة للنظام، بأن هذا الأخير، يقوم ايضاً بالاستثمار لحساب شخصيات متنفذة في النظام، على اعتبار أنه لا يمكن أن يسمح الأسد، باستفراد مخلوف بهذا الكم الهائل من الأموال والاستثمارات المتنوعة.

حين فرضت وزارة الخزانة الأميركية في العام 2008 عقوبات على مخلوف، ومنعت المواطنين أو المؤسسات الأميركية من التعاطي بأعمال معه، وصفته بالقول "رجل أعمال سوري قوي ومتنفذ، جمع إمبراطورتيه التجارية من خلال استغلال علاقاته مع أفراد النظام السوري"، ومضت في وصفه على أنه من داخل النظام ممن يزعم أنه "يستفيد ويساعد في الفساد العام" للمسؤولين. وفي العام نفسه، قال مخلوف لوكالة "رويترز":" إني أشكر جورج بوش –الذي كان رئيسا للولايات المتحدة آنذاك- على هذا القرار، لأن العقوبات زادت من مستوى الدعم لي داخل سوريا. فأنا لست برجل أعمال ينتهج سياسة الصفقات السريعة والانسحاب". وعلى الرغم من أنه لم يصدق، بأن شعبيته زادت في وسوريا، إلا أنه صدق في توصيف نفسه، بأنه ليس رجل الصفقات السريعة. فهو لا يستطيع أن يقول، إن مؤسساته وشركاته التي قامت عن طريق مأسسة الفساد، خُطط لها، على اعتبار أن نظام الأسد مستمر إلى الأبد، وأن هذا النظام الذي عاش أكثر من 40 سنة، سوف يعيش إلى عقود مقبلة، ربما توفر لمخلوف استحواذاً على الاقتصاد الوطني لسوريا يصل إلى مائة بالمائة بدلاً من 60 في المائة.

مع تمأسس الفساد في سوريا، تمأسس الظلم والحرمان في هذا البلد. فالذين يستجدون فرص عمل، عليهم أن يمروا بسلسلة من الامتحانات التأهيلية. فإذا كانوا من أولئك الباحثين عن وظائف بسيطة، يجب عليهم أن يُثبتوا أنهم مؤمنون بحتمية الرشوة، أما أولئك الباحثين عن وظائف أعلى قليلاً، عليهم أن يبرهنوا أن الأخلاق لا قيمة لها، تماماً فثلما هي الإنسانية لا قيمة لها، في مدينة صامدة كدرعا، ومدن مُكافِحة كحمص وبانياس واللاذقية وغيرها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق