الاثنين، 28 مارس 2011

أصحح خطئي الذي ارتكبه كيري

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"المال لا يشتري أصدقاء، لكنه يوفر أعداء على مستوى رفيع"
سبيك ميليجان كاتب وشاعر وكوميدي ايرلندي

 
 
 
محمد كركوتــي
 
تسبب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي جون كيري، في تأجيل كتابة مقال جديد لي، كنت نويت أن أتناول فيه الأموال التي نهبها سفاح ليبيا معمر القذافي، والوصول إلى أفضل التقديرات حول حجمها، وإلى أقرب الملاذات الآمنة التي يخزنها فيها، وإلى محاولة معرفة كيفية تبديد أموال ومقدرات الشعب الليبي. فقد نقلت عن السيناتور الأميركي في مقالي السابق، حول الأموال المنهوبة على أيدي الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك وعائلتيه الصغيرة والكبيرة، الذي نُشر بعنوان "هل تكون 70 مليار دولار مجرد فكة؟" أن الولايات المتحدة الأميركية جمدت أموالاً وأصولاً لمبارك تبلغ 31,5 مليار دولار أميركي، وأن هذه الثروة موزعة في عدد من المدن الأمريكية، وتشمل عقارات في نيويورك وكاليفورنيا وأرصدة في عدة مصارف. وفيما كان المقال في طريقه إلى النشر، صرح كيري بأنه أخطأ في هوية السارق. فالثروة التي أعلن عنها صحيحة، ولكنها تعود للقذافي وليس لمبارك، الأمر الذي دفع هذا الأخير للتهديد برفع دعوى قضائية ضد السيناتور الأميركي. ولعل هذه الدعوى هي الوحيدة التي يمكن لمبارك رفعها الآن، وسط مئات القضايا المرفوعة ضده وضد عائلتيه من الشعب المصري. ولو كنت مكان مبارك (ولن أقبل أن أكون مكانه)، لشكرت الله على الخطأ الذي وقع فيه كيري. فقد وفَر له مساحة سنتيمترات في طريق يُحسب بعشرات الأميال، يقود إلى محاكمته حول كل شيء. نهب الأموال في مقدمتها، بالإضافة طبعاً إلى قتل مواطنين عزل، أرادوا فقط أن يستعيدوا حقوقاً مسلوبة، وكرامة مغتصبة، وآمالاً مقتولة.

ولكي أصحح خطأ وقعت به ولم أرتكبه، أرى بأنه ليس مستبعداً أن يمتلك مبارك وعائلتيه أموالاً منهوبة تزيد عن الـ 31,5 مليار دولار العائدة للقذافي في الولايات المتحدة، وليس مستغرباً أن تكون التقديرات التي تتداولها جهات رصينة –لا اتهامية- حول ثروة مبارك وعائلته الصغيرة ما بين 40 و70 مليار دولار صحيحة، يضاف إليها 140 مليار دولار، هي مجموع ثروات أفراد عائلته الكبيرة، الذين يعدون بالعشرات لا بالملايين. هم عبارة عن مجموعة من الأشخاص، مُنحوا "مناصب" رجال أعمال، في بلد شارف على الانهيار الاقتصادي في العام الماضي. في بلد يعمل فيه 17 مليون إنسان بنظام "المياومة". في بلد يعيش فيه 40 في المائة من سكانه تحت خط الفقر. في بلد يعج بـ 9 ملايين إنساناً مصاباً بالكبد الوبائي. في بلد شهد فيه "مهرجان" الخصخصة، بيع الزبالة نفسها! في بلد تحول إلى سوق مفتوحة لبيع الأعضاء البشرية. في بلد فُرضت فيه الضرائب على من لا يملك شيئاً، ورفُعت عن الذي يملك كل شيء. في بلد بيعت فيه الأراضي بـ "الملاليم" لمن يملك الملايين بل والمليارات. في بلد بيعت فيه ديون البلاد لنجل الرئيس بتخفيضات فلكية، ليمتلكها بقيمتها الحقيقية. في بلد قُدست فيه السوق المالية، واحتُقرت فيه سوق الغذاء، إلى درجة تحولت فيه الطماطم من فاكهة يستطيع الجميع الوصول إليها، إلى أطباق "السَلطة" على موائد الأثرياء فقط!

هكذا كان حال مصر. فالفساد (ومعه النهب) الذي شُكلت له مؤسسات ليصبح من أقوى القطاعات في البلاد، لم يبدأ في الواقع في العام 1981 عندما وصل الرئيس المخلوع إلى السلطة، بل قام هذا الأخير بالنهب عندما كان نائباً للرئيس الراحل أنور السادات. وبعد مقتل الأخير، حرص مبارك على "مأسسة" السرقات، وفي السنوات اللاحقة، أصبغ مؤسسات الفساد، بصبغة اعتقد أنها أبدية، لا يمكن أن تحل. ولكن مع أول صرخة في ميدان التحرير بالقاهرة، ظهر اللون الحقيقي الأسود المر لها.

في كتاب "كبار زعماء العالم" الصادر عن دار النشر "تشيسي هاوس"، الذي منعه مبارك من التداول في مصر، أورد المؤلفان ميير سشلنجير وسوزان دراج، أن الرئيس المخلوع كاد أن يفقد منصبه كنائب للرئيس، عندما علم السادات، أن مبارك أطلق موجة من الصفقات الخاصة في الولايات المتحدة، مع رجل الأعمال حسين سالم دون علم الرئيس الراحل بها. وحسب الكتاب فإن السادات قرر فعلاً استبدال نائبه المهتم "بالبزنس" من وراء ظهره، بالوزير منصور حسن، لكن تدخل زوجة السادات جيهان في آخر لحظة، دفع زوجها إلى صرف النظر عن الموضوع. وبصرف النظر عن نية السادات، سواء حرصه على النظافة السياسية، أم غضبه من أن صفقات مبارك تجري من تحته، فإن الرئيس المخلوع باشر عمليات النهب، قبل أن يحتل كرسي الرئيس. وربما من المهم الإشارة هنا، إلى أن عوامل أخرى ساهمت في بقاء مبارك في منصبه كنائب للرئيس، في مقدمتها، قربه الشديد من السادات، ومعرفته بتفاصيل علاقات هذا الأخير بالولايات المتحدة آنذاك، ومعرفته أيضاً بحقيقة فساد الرئيس نفسه وعائلته، ولا سيما قضايا شقيقه عصمت السادات.

ويتناغم مضمون الكتاب الأميركي، مع ما نشرته صحيفة "اللوموند" الفرنسية الرصينة، بأن حسني مبارك تورط بالفساد وبنهب أموال الخزينة المصرية، منذ العام 1975. أي أنه دخل عام الفساد والسرقات منذ 36 عاماً على الأقل. وقد يكون مفيداً الإشارة هنا، إلى أن وثيقة كشفت عن امتلاك مبارك لسندات خزينة صادرة عن مصرف "باركليز" البريطاني في اغسطس/آب من العام 1976، تصل قيمتها آنذاك إلى 600 مليون دولار أميركي! هذه الوثيقة استطاعت الوصول إليها "اللجنة الدولية لملاحقة ناهبي ثروات الشعب المصري"، التي تتخذ من باريس مقراً لها. وطبقاً لـ "اللوموند"، فإن الرئيس المخلوع استغل منصبه منذ العام 1975، كمفاوض على صفقات السلاح بين مصر وكل من الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة، للحصول على عملات ورشى تحسب بمئات الملايين الدولارات. وتقول: "وكانت هذه بداية عهده بالثروة".

وإذا كانت عمليات نهب الأموال العامة بصورة مباشرة، أو غير مباشرة عن طريق العمولات، أو حسب التعبير المصري العامي "السبوبة"، بدأت في الواقع في منتصف سبعينات القرن الماضي، علينا أن نحسب حجم الأموال، التي وصلت إلى ملاذاتها الآمنة في الدول الأجنبية والعربية، وعلى وجه الخصوص في أشباه الدول، التي لا تزال تقاوم التحولات الدولية، في مسألة الأموال المنهوبة من الشعوب. ففي غضون 30 عاماً، وصلت إلى مصر مساعدات ومعونات دولية وعربية بلغت أكثر من 210 مليار دولار أميركي.

في ثمانينات القرن الماضي، راجت نكتة تقول: إن رئيساً عربياً قدم سيارة فارهة لمبارك كهدية، ورفض هذا الأخير الهدية، وقال سوف أدفع ثمنها. واستحياء طلب منه دفع درهم واحد على سبيل الرمزية. فما كان من مبارك، أن دفع خمسة دراهم، وقال له: اعطني خمس سيارات.

قبل عشر سنوات تقريباً، كنت حاضراً في أحد الاجتماعات التي جمعت مبارك ورئيس إحدى الدول الخليجية. وقد قام المسؤولون بإخراج كل الموجودين، بما في ذلك الوزراء، لبدء اجتماع ثنائي بين الرئيسين فقط. في القاعة التي جمعتني مع الخارجين، لم يخف أحد كبار المسؤولين امتعاضه، من ماذا؟ من محاولات مبارك إقناع الرئيس الخليجي، بتحويل المشروعات التي تقوم بها دولته في مصر، إلى أموال سائلة! أي أن تقوم هذه الدولة بدفع المال بدلاً من إقامة مشروعات تشرف عليها مباشرة. لم تكن محاولات مبارك هذه تمثل صدمة لمن يعرفه.

السؤال يبقى كما هو في مقالي السابق "هل تكون 70 مليار دولار مجرد فكة؟".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق