الاثنين، 14 مارس 2011

مكافح ومحارب وثوري.. وثروات

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"أنت تعتقد أن الأموال هي جذور الشر. هل سألت يوماً ما هي جذور كل الأموال؟"
آين راند كاتبة ومؤلفة روسية-أميركية







محمد كركوتــي
 
إنها حقيقة، لا أحد يمكنه الادعاء بمعرفة حجم الأموال التي نُهبت على أيدي رؤساء خُلعوا، أو زعماء في طريقهم إلى الخلع، أو قادة يسعون بكل ما أمكن لهم، إطالة المدة الفاصلة لخلعهم. ولا أحد يستطيع أن يحدد قائمة حقيقية ودقيقة للأموال المنهوبة. فالذين ينهبون الأموال، يعرفون كيف يخفونها، وكيف يمررونها، وكيف يحولونها من أموال قذرة، إلى ملوثة إلى متسخة، إلى نظيفة. وللبعض منهم مهارات، يمكنهم عن طريقها تحويل هذه الأموال، من قذرة إلى نظيفة، دون المرور بالمراحل التقليدية المشينة. وإذا ما أَخفقوا في ذلك، هناك مئات المستشارين من أولئك الذين يرتدون البدلات الإيطالية والفرنسية الفاخرة جداً (لاسيما في الدول الغربية الكبرى، وأشباه الدول)، يقومون بالمهام على أكمل وجه، وبأفضل صيغة ممكنة كانت أم غير ممكنة، مع موجات متواصلة (أو متقطعة، حسب الحاجة) من العلاقات العامة، التي تُسوق هذا السارق (الطاغية) أو ذاك، كراعٍ كريم حنون مرهف القلب والوجدان، لجمعيات خيرية، ولهيئات إنسانية، ولمراكز أيتام، ولا بأس من مؤسسات تقدم إنتاجاً لتأصيل الحضارة البشرية، وتدعو إلى التسامح والحب. ولكل موجة من هذه الموجات سعرها. ولعل هذه الأنواع من الصفقات، هي الوحيدة في هذه الدنيا التي لا يختلف الطرفان حول تكاليفها. مليون دولار أميركي للتلميع، و20 مليوناً للتطبيل، و100 مليون للتنظيف، أين المشكلة؟ ليس مهماً ما قاله يوماً الأديب والشاعر الأميركي الشهير رالف إيمرسون "المال يُكلف الكثير". عذراً أيها الأديب، ليُكلف. فالمال يتكلم أحياناً، وإن كان يشتم غالباً.

وضعت الثورات التي شهدتها تونس ومصر، وتشهدها ليبيا، قضايا الأموال المنهوبة في عين الأضواء. وهذا أمر طبيعي. فالطغاة يحسبون أنهم يمتلكون شعوبهم، فما الذي يمنعهم من امتلاك أموالها ومقدراتها أيضاً؟ وإذا كان هناك من رجال أعمال ومستثمرين يمتلكون مصارف، فالطغاة يمتلكون مصارف المصارف، أي البنوك المركزية نفسها. هكذا فعل العراقي صدام حسين. فعندما فر هارباً من مصيره أرسل ابنه إلى البنك المركزي، ليُفرغ أموال شعب العراق، في حقائب وصناديق، هرَب ما أمكن له منها خارج البلاد، واحتفظ بأموال هائلة، لينفقها على عصاباته، وليشتري حباً شعبياً لم يحصل عليه. لم يكن يعرف (مثل بقية طغاة الدنيا)، أن الحب يُمنح.. لا يشترى، وإذا أتى على شكل سلعة، فتاريخ انتهائه يبدأ مع تاريخ صناعتها.

المخلوعان التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك، وزميلهما المقبل الليبي معمر القذافي، فعلوا الشيء نفسه. حولوا مصارف شعوبهم المركزية، إلى خزائن منزلية، تحت غطاء بائس من حديث لم ينقطع عن أنهم "ضحوا" من أجل هذه الشعوب، وأنهم "أفنوا" أعمارهم كفاحاً، لهناء شعوبهم، وأنهم زاهدون في السلطة، بل أنهم سئموا منها. لا أعرف إن كانوا يدركون، أن أحداً لم يصدقهم، وأغلب الظن أنهم لا يدركون ذلك. وبعيداً عن الخراب الذي نشروه في بلدانهم (وخسائره لا تقدر بثمن)، فقد حصلوا على مكافآت "تضحياتهم وكفاحهم" من دون فواتير. إنهم أكثر الناس كرهاً للفواتير والمحاسبة. فالتقديرات المتفق عليها، أن بن علي وأسرته نهبوا 40 مليار دولار أميركي، كمكافأة نهاية الخدمة، ومبارك وعائلته "كوشوا" على 70 مليار دولار كـ "أتعاب" رئاسة، وسفاح ليبيا نفح نفسه وأولاده وزوجته المفضلة بـ 120 مليار دولار، كـ "إجرة" على قيادة الثورة! وحسب التقديرات الرصينة، فقد انتفع أشخاص حول رئيس تونس المخلوع ممن منحهم "مناصب" رجال أعمال بأكثر من 50 مليار دولار، وانتفعت نفس الفصيلة حول رئيس مصر المخلوع بأكثر من 140 مليار دولار. أما الفصيلة الليبية حول ملك ملوك أفريقيا، فقد استحوذت على ما يقرب من 80 مليار دولار، بما في ذلك الأموال التي أنفقها رئيس الـ "لا نظام" الليبي على معارك خارجية مدمرة، وعلى قبائل لا تعرف الفرق بين الإنسان والحيوان، فهي تأكل لحوم الاثنين معاً. وطبعاً لا أحد يعرف بعد، حجم الأموال التي ينفقها سفاح ليبيا على المرتزقة الذين يستوردهم من صربيا وأوكرانيا وأفريقيا لقتل شعبه. وحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية الرصينة، فإن هذا الأخير يمتلك عشرات المليارات من الدولارات نقداً في طرابلس، الأمر الذي يتيح له مواجهة الثورة، رغم تجميد الأرصدة الليبية دولياً. لا تقلق إذاً يا قائد الثورة.. من الثورة.

على كل حال.. بحساب بسيط، يبلغ حجم الأموال المنهوبة من ثلاث دول عربية 400 مليار دولار أميركي. وإذا أضفنا الخراب الذي خلفه الناهبون في بلدانهم، لا شيء يمكن أن يُعبر عن هذا المشهد الذي يدعو إلى الغثيان، سوى الذهول. وتكفي الإشارة هنا، لتعميق هذا الذهول، أن ثلاث دول غربية هي فرنسا والولايات المتحدة الأميركية والنمسا، استطاعت في ثلاثة أيام فقط، تحديد أرصدة وأصول لـ "قائد الثورة" بلغت 42 مليار دولار أميركي! الأمر الذي يحفز أي مراقب، على مراجعة حقيقة التقديرات الرصينة نفسها، الخاصة بالأموال الليبية المنهوبة. وفي قصر قرطاج حيث كان المقر الرسمي للمخلوع بن علي، وجد المحققون رزم مالية مدموغة بخاتم البنك المركزي، في الخزائن الخشبية (لا الحديدية)، فاقت قيمتها 27 مليون دولار أميركي، وهذه "الفكة" لم يستطع حملها قبل أن يهرب على عجل، بالإضافة إلى مجوهرات أذهل حجمها وقيمتها جميع من كانوا يحصون المسروقات. هذا إلى جانب الآثار المنهوبة التي لا تقدر بثمن.

هناك مثل لا تيني يقول: "إذا أحببت أن تشعر بالثراء، قم باستعراض الأشياء التي تملكها، ولا يمكن أن تُشترى بالمال". ليس لدى هؤلاء شيئاً لا يُشترى. لكل رجل منهم سعره وتسعيراته. قائد الثورة لم يكن سوى رئيس عصابة، تدرج نحو مكانته هذه من قاطع طريق، والرئيس الذي وجه الضربة الجوية الأولى في الحرب ضد إسرائيل (لم أفهم أين البطولة في ذلك إذا ما كان يقوم بواجبه)، لم يكن إلا رئيس ناد عائلي بأعضاء محدودين جداً، للسرقات المُحكمة جداً جداً، والرئيس الآخر الهارب، لم يكن رئيس دولة، كانت رئيساً لتجمع سماسرة، لديهم الكفاءة المرعبة في سرقة الكحل من العين.

سرقة، نهب، اختلاس، فساد، استبداد، قمع، ظلم، إهانة، ازدراء للإنسانية، استغلال نفوذ، تخريب المؤسسات، تمكين عائلة الزعيم وأصهاره والهائمين بحبه.. هكذا كانت الأحوال في تونس ومصر وليبيا. الأولى كانت يديرها "مكافح"، والثانية كانت يتسيدها "محارب"، والثالثة كانت يملكها "ثوري". ومثل كل الكاذبين بالسليقة، صدق هؤلاء توصيفاتهم، وحولوا أنفسهم إلى رموز أرادوا لها أن تكون تاريخية. أحبوا أن تكون محفورة في ذاكرة الشعوب. سعوا ليدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه. إنهم بلا شك، سيدخلون التاريخ الذي يحتضن الخير والشر. سيدخلونه من الباب الخلفي له، وهو نفس الباب الذي دخله طغاة سابقون، تعاملوا مع الإنسانية، كعدو بغيض لا قيمة له، وتعاطوا مع الشعوب، كقطيع لا يستحق إلا الذبح، خصوصاً في المناسبات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق