الثلاثاء، 5 أبريل 2011

أموال ملك ملوك الثائرين

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"الإنسان الذي لا يملك شيئاً، يمكنه أن يُصفِر بقوة في وجه اللص"
جوفينال شاعر من العصر الروماني

 
 
 
 
محمد كركوتــي
 
لا أحد يعرف أين يختبئ ملك ملوك أفريقيا العقيد الليبي معمر القذافي، أو أين سيختفي إلى الأبد، ولكن هناك من يعرف أين يُخبئ "إمام المسلمين" المزور قسماً كبيراً من الأموال التي نهبها، على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن. وأحسب أن توني بلير المستشار الشخصي للقذافي، واحد من أولئك الذين يعرفون. أليس هو من أعاده إلى المجتمع الدولي، بحملة تسويق لم يشهد التاريخ السياسي، عناصر مشابهة لها؟! وكما للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي الذي يحب وصفه بـ "المكافح"، وزميله المصري حسني مبارك الذي يسعد بوصفه بـ "المحارب"، كذلك القذافي الذي يهيم بوصفه بـ "الثوري"، له عائلتان. صغيرة تستحوذ على كل مقدرات الشعب، وكبيرة تشارك في الاستحواذ، ويحظى كل فرد منها على نصيبه حسب مستوى ولائه لا كفاءته، وحسب حبه للقائد الأوحد لا إعجابه، وحسب سرعة تلوثه لا نظافته. والعائلة الكبيرة هذه لا تعد بالملايين، بل بالعشرات فقط، حصلوا على "مناصب" رجال أعمال ومستثمرين بالتعيين!

بعد أن استفاق القذافي جزئياً من صدمة الثورة الشعبية العارمة، ألقى خطاباً مُهيناً –كعادته- للشعب الليبي، ادعى فيه –كما يفعل دائماً- بأنه "ثائر لا يملك إلا بندقيته وخيمته"، وبالطبع تناسى أن يشير إلى أنه ملك ملوك أفريقيا، لأن هذا "المنصب" لا يستقيم مع ثائر ادعى بأن العالم كله يحبه، بل وادعى بأنه قائد لهذا العالم! والحقيقة أن القذافي لم يكن سوى مملوكاً للمال المنهوب، والممتلكات المسروقة. وهو يستحق بجدارة توصيف "ثائر من أجل المال"، لا من أجل الحق والحرية والكرامة. يستحق توصيف المناضل من أجل الثروة لا الثورة، من أجل الفساد لا النزاهة، من أجل كل ما هو شائن لا الكريم. لم يكن القذافي إلا طاغية من طراز فريد، عشق نفسه وكره شعبه. اشترى بالمال المسروق، المناصب البائسة من أفريقيا البائسة لإرضاء غروره البائس. رغب القذافي أن يشتري النبوة، ولكن من في هذا العالم يملك أن يمنحها له أو لغيره؟ ولذلك اكتفى بـ "منصب" وهمي هو إمامة المسلمين.

كبقية الطغاة الناهبين في هذا العالم، يصعب حصر الأموال التي سرقها معمر القذافي خلال فترة حكمه لبلاده. ليس هناك غير التقديرات التي تتسم بالرصانة في هذا المجال. فالسارق مثل القاتل، يجهد نفسه في إخفاء الضحية، وإن فشل في ذلك، يواصل جهده في إخفاء أدوات الجريمة. هكذا فعل بن علي وكذلك مبارك، وغيرهما من الطغاة الذين فروا بأموال هائلة، وتركوا شعوبهم وسط مصائب مريعة.

تصل التقديرات حول الأموال التي نهبها القذافي وعائلته الصغيرة إلى ما بين 80 و131 مليار دولار أميركي. وهو بذلك يحتل المركز الأول في قائمة الرؤساء الأكثر نهباً لشعوبهم على مستوى العالم. أما الأموال التي نهبتها عائلته الكبيرة فتتأرجح بين 60 و70 مليار دولار. وطبقاً لوثائق "ويكيليكس" التي أصبحت المصدر الأكثر دقة في عالم مليء بالأسرار المشينة، فإن عائلة ملك ملوك أفريقيا الصغيرة، "بنت مصالح تجارية واسعة في قطاعات مختلفة من النفط إلى الفنادق، خلال فترة حكمه التي تمتد زهاء 42 عاماً". والثروة الليبية المنهوبة موزعة في كل أنحاء الأرض، ولاسيما عند صديقه المتهاوي رئيس وزراء إيطاليا سيلفيو برلسكوني، وفي بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والنمسا. إنها على شكل أرصدة، واستثمارات في شركات بترول وقصور ويخوت وأندية أوروبية، وشركات المنتجات الغذائية والمشروبات. وإذا ما استندنا إلى الحد الأدنى من التقديرات، فإن القذافي كان ''عادلاً'' في توزيع الثروة على أبنائه. فقد منح خمسة مليارات دولار أميركي بالتساوي لكل واحد منهم. لم يظلم أحداً! وتقول صحيفة "التايمز" البريطانية الرصينة: "إن معمر القذافي هو المسيطر الأوحد على كافة قطاعات الاستثمار في ليبيا، وعلى رأسها النفط، وهذه الاستثمارات يمرر معظمها من خلال إيطاليا". وتصف إحدى الوثائق المسربة من وزارة الخارجية الأميركية النظام الليبي بأنه "عبارة عن فساد مستفحل، وشبكة للسرقة الحكومية لصالح أفراد أسرة القذافي و/أو حلفائهم المقربين الذين يسيطرون على كل ما يتعلق بالبيع والشراء والتملك في كل ما يخص البلاد". واستناداً إلى منشقين "تائبين" عن النظام الليبي (والأصح أن نقول لا نظام)، فإن أي حركة مالية لا تدب بها الحياة، إذا لم تكن ملكاً لـ "الثائر"، وفي أحسن الأحوال، دون موافقته المباشرة عليها.

وإذا كان مبارك –كما يقول مسؤول استخباراتي بريطاني- بقي 18 يوماً في السلطة بعد اندلاع الثورة في مصر، لإخفاء ما هو ظاهر من ثروته وثروة عائلته، فالقذافي يخفي الأموال المنهوبة، فور استكمال عملية السرقة، مع استمراره في حمل مفاتيح البنك المركزي الليبي، الذي يتعاطى معه كـ "حصالة". يسلب منها ما يريد، ويبدد ما يريد أيضاً وفق "استراتيجية ثورية" فظيعة. كان –ولايزال- يعتقد بأنه يملك ليبيا ومعها الليبيين، وبالتالي فهو يملك مقدراتهم وثرواتهم، ولا يحق لأحد أن يسأل، وإن وجد من يسأل بالفعل، فلا أحد يسأل عن مصيره فيما بعد.

بعد ثلاثة أيام فقط من فرض الحظر الدولي على القذافي وعائلتيه الصغيرة والكبيرة، بما في ذلك تجميد الأموال التي نهبها، تمكنت ثلاث دول هي بريطانيا والولايات المتحدة والنمسا، من حصر أموال وأصول له تصل قيمتها إلى 41 مليار دولار أميركي. وبعدها بأسبوعين فقط أعلن جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، بأن السلطات الأميركية جمدت ثروة لـ "الثائر" في الولايات المتحدة تبلغ 31,5 مليار دولار. وتنقل وسائل إعلام نمساوية عن جهات مصرفية واستثمارية نمساوية، أن المبالغ المالية التي يملكها "الثائر" نفسه وعائلته وحلفاؤه بالنمسا، تقدر بنحو 30 مليار دولار. وإذا ما جمعنا هذه الأموال، فإنها تصل إلى أكثر من 100 مليار دولار! أي نصف ما هو متداول، بأن مجموع الأموال المنهوبة على أيدي أسرة القذافي وأركان نظامه، تصل إلى قرابة 200 مليار دولار. والحقيقة المريعة، أن ما تم حصره أو تجميده من هذه الأموال، لم يشمل بعد تلك المخزنة في إيطاليا وسويسرا وغيرهما من الدول، بالإضافة طبعاً إلى أشباه الدول. وعلينا أن نعرف، أن إيطاليا، هي أكثر الدول استقطاباً لأموال القذافي. فإذا كانت التقديرات تشير إلى أن حجم هذه الأموال في بلد كالنمسا، لا تربطه علاقات متميزة مع ليبيا بلغت 30 مليار دولار، يمكن أن نتخيل حجم هذه الأموال في إيطاليا. ففي السويد البلد التي لا تعتبر مقربة من نظام القذافي، استطاعت السلطات هناك، أن تجمد أموالاً وأصولاً له بلغت 1،6 مليار دولار!

تمكن القذافي من نهب بلد، يعيش فيها 1،5 مليون عاطل عن العمل، و30 في المائة من مجموع سكانها يعيشون تحت خط الفقر، و17 في المائة منهم أميون. كان ثورياً إلى حد الجنون، في النهب المنظم وغير المنظم. كان ملك ملوك الهموم التي صنعها لشعبه، كان "إماماً" لمجموعة من الأشخاص، أقسموا ألا يتركوا للشعب شيئاً. ألم يقل ذلك سيف الإسلام القذافي ولي عهد "الثائر"، عندما هدد كل الليبيين على الهواء مباشرة، بأنهم لن يصلوا حتى إلى الخبز، إذا ما استمرت ثورتهم؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق