الاثنين، 7 مارس 2011

توني القذافي ومعمر بلير

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


"نحن نتحدث وفق المبادىء، ونعمل وفق المصالح"
وولتر لاندور كاتب إنجليزي




محمد كركوتــي

اتصل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير، مرتين في يوم واحد بحاكم ليبيا غصباً وقهراً معمر القذافي، لاقناعه بالتنحي (وربما نصحه بالفرار بجلده). لم يجد رئيس وزراء بريطانيا الحالي ديفيد كاميرون، ومعه الرئيس الأميركي باراك أوباما، شخصية أفضل من بلير للقيام بهذه المهمة، التي فشلت، فور تبادل كلمة "ألو" بين بلير والقذافي. فهذا الأخير فَقَدَ اتصاله مع الواقع، منذ عقود من الزمن. هذا إن كان هناك اتصال أصلاً. وإذا تبقت عنده مساحة من التفكير، فقد خصصها لتمتعه بأمجاد وهمية، وانتصارات كاذبة، وادعاءات بائسة- مضحكة، وبطولات ورقية، إلا إذا اعتبر هو، أن قصف الأبرياء براً وجواً، وقتل الجرحى في أسِرتهم، وحظر الطعام والدواء على شعبه، وتشغيل المرتزقة ضد شبان يسعون إلى كرامة سُلبت منهم، وآمال واجبة التحقيق.. نوعاً من أنواع بطولاته.

أغلق بلير سماعة الهاتف، ليقول لرئيس وزرائه: إن هذا المقيم في باب العزيزية بطرابلس، لن يتنحى، وسيقاتل حتى آخر رجل وامرأة. بالطبع لم يقل القذافي لوكيله، أن الرجال والنساء الذين سيقاتل بهم إلى آخرهم، ليسوا من عائلته. إنهم الشعب الليبي كله.

لم يظهر في بريطانيا، منذ 110 عاماً رئيس وزراء يعاني من اضطراب أخلاقي، مثل توني بلير. وهذه المدة هي الفاصلة بينه وبين آرثر بلفور، صاحب أحط قرار في التاريخ البشري، وهو إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وحتى أنتوني إيدن الذي نظم وشن العدوان الثلاثي على مصر في خمسينات القرن الماضي، لم يكن أكثر اضطراباً أخلاقياً من بلير. فقد أظهرت الوثائق أن إيدن، ونتيجة فشل مفزع لعملية عادية أُجريت له لاستئصال المرارة، كان يتناول حبوباً وعقاقير أشبه ما تكون الآن إلى حبوب الهلوسة (ليست كتلك التي يتناولها الليبيون بالطبع كما يدعي القذافي!)، وقد أثرت في قراراته التي كان يتخذها، إلى جانب "السرطان" السياسي والعدواني الإسرائيلي، ومعه "الطاعون" السياسي الفرنسي.

أتى توني بلير إلى الحكم في العام 1997 نظيفاً، وخرج منها ملوثاً عصياً على التنظيف. علقت به كل الأدران، بما في ذلك إعادة سفاح ليبيا إلى المجتمع الدولي، رغم معرفته، بأن القذافي، بطل من أبطال إزدراء الإنسانية، لا يختلف عن الثائر "المخملي" روبرت موغابي في زيمبابوي، أو الراحل "الامبراطور" بوكاسا في أفريقيا الوسطى، ولا عن الراحل الآخر أنستازيو سوموزا في نيكاراجوا. وبدلاً من أن يفخر، بأنه تم القبض على طاغية تشيلي السابق أوغاستو بينوشيه، في لندن في عهد حكومته لمحاكمته على الفظاعات التي قام بها ضد شعبه، عمل بلير على توفير أفضل الوسائل والآليات، لدمج الطغاة في مجتمع عالمي يكرههم، بل ويسعى إلى الاقتصاص منهم. استغل حب جورج بوش الابن (غير العذري) له، ليساهم هذا الأخير في تلميع صورة القذافي، في الوقت الذي تناسى فيه، أن الصورة عفنة لا تُلمَع، وأنها مهشمة لا تُرمم، وأنها قبيحة لا تُجمل.

تناسى بلير، على أنغام موسيقى الانتفاع المالي له شخصياً، وللشركات التي يعمل بها مستشاراً، أو تلك التي تنفحه بهداياها الثمينة جداً جداً، دم الشرطية البريطانية البريئة إيفون فليتشر، التي قُتلت برصاص "دبلوماسيي" القذافي في لندن وهي تحميهم، وتناسى دماء ضحايا طائرة الركاب الأميركية التي انفجرت فوق لوكربي، وتناسى أسلحة القذافي المُصدرة إلى الإيرلنديين وقتلت بريطانيين، وتناسى عمليات قتل المعارضين الليبيين فوق الأراضي البريطانية، وتناسى التهديدات الرسمية، من ليبيا "العظمى" لبريطانيا العظمى، من مغبة مواصلة استضافتها لمعارضيين ليبيين، وتناسى المخالفات التي تفوق الجنح لأولاد القذافي في المملكة المتحدة. تناسى كل القضايا المشينة التي لا تنتهي بالتقادم. لماذا؟ لأن توني بلير، لم يكن سوى شخصية بطولية في معارك المصالح الشخصية، التي استهجنت الأخلاق، واعتبرتها صرعة، من تلك التي تظهر مرة واحدة خاطفة، وتختفي إلى الأبد.

ترك بلير زعمامة حزبه ورئاسة الوزراء قسراً، على أمل أن يصبح أول رئيس للاتحاد الأوروبي، لكنه خرج من السباق لهذا المنصب قبل أن يدخل. فقد عرف الأوروبيون أنه لا مكان للملوثين هنا. وفشل أيضاً في أن يكون مبعوثاً للشرق الأوسط، له وزن وقيمة واحترام. لكنه نجح إلى آخر مدى، في أن يكون مستشاراً شخصياً لسفاح ليبيا، ولماذا أيضاً؟ لهيئة الاستثمار الليبية، المملوكة في الواقع لأسرة القذافي، وتبلغ أصولها ما يزيد عن 94 مليار دولار أميركي. هو يقول: لا.. لا أعمل مستشاراً له، ويقول سيف الإسلام القذافي علانية: إن بلير هو بالتأكيد مستشار لوالدي. البعض يقول: إنها مفارقة أن يعمل بلير مستشاراً للقذافي، بينما هذا الأخير يقف ضد الحرب على العراق التي قادها بلير نفسه مع "مُحبه" بوش الابن، وهو أيضاً منحاز إلى الجانب الإسرائيلي كمبعوث للشرق الأوسط. والحقيقة، أن القذافي لم يكن ضد الحرب على العراق، بقدر خوفه على نفسه من مصير صدام حسين، كما أنه من أكثر الزعماء العرب أذى للقضية الفلسطينية برمتها. قد يكون من المفيد الإشارة إلى ما قاله مندوب ليبيا الدائم في الأمم المتحدة عبد الرحمن شلقم، بأن سفاح ليبيا يستعين بخبراء إسرائيليين لقتل ما أمكن من الشعب الليبي.

لم ينتظر توني بلير الخروج من السلطة، ليشتغل مندوب تسويق لشركات بريطانية، بل وغير بريطانية أيضاً. فقد دخل التاريخ كأول رئيس وزراء بريطاني (وهو في منصبه)، يبعث برسائل رسمية، للتوسط لشركات نفطية وغير نفطية، للفوز بعقود هائلة الحجم. وبعد معانقته الحميمية للقذافي في إحدى خيمه في العام 2004، لم يتوقف هذا النوع من الرسائل (بلير هو أول رئيس وزراء بريطاني يزور ليبيا منذ استقلالها عام 1951). وقتها انطلقت صفقة بين الجانبين المشينين سميت بـ "صفقة في الصحراء"، والأفضل أن تسمى "صفقة الغاب"، لأنها تضمنت كل شيء ضد الشعب الليبي. تصدير أسلحة بريطانية مخصصة لضرب المدنيين العزل في مقدمتها، بما في ذلك الرصاص الحي الذي ينفجر في الجسم. صفقة كُللت بقُبل وابتسامات، وسط "مهرجان" من حرمان يعيشه الليبيون. وكأن توني بلير أراد أن يطبق بالحرف ما قاله الأديب الإيرلندي الشهير أوسكار وايلد. ماذا قال؟ "يمكن للإنسان أن يعطي رأياً غير متحيز على الإطلاق، حول أشياء لا مصلحة لأحد فيها". وهذا "الأحد" لم يكن سوى الشعب الليبي.

في السنوات التي بدأ فيها بلير يعمل مسوقاً للنظام الليبي (والأصح أن نقول لـ لا النظام)، وتحديداً لعائلة القذافي، امتزج اسمه بهذا الأخير بصورة مريعة، قبل طرد بلير من السلطة، وتوحد الإسمان بعد أن أصبح طليقاً وحراً من القيود (التي تجاوز جلها) وهو في السلطة. كان مستشاراً للسفاح، وبعدها أصبح مندوبه المتجول الدائم. كان بائعاً لمُنتَج انتهت صلاحيته، حتى قبل أن يُصنع. لمُنتَج انتهت إنسانيته قبل أن يُولد. لا أعرف إن كان توني بلير، يشعر بمدى الأضرار التي ألحقها بالشعب الليبي وبالإنسانية، من جراء دوره المشين، ولهفه للأموال المغمسة بالدماء، وأغلب الظن أنه لا يشعر بذلك على الإطلاق. لكن الذي أعرفه، أنه سيدخل التاريخ من الباب المجاور لذاك الذي سيدخله سفاح ليبيا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق