الاثنين، 21 مارس 2011

هل يكون 70 مليار دولار مجرد "فكة"؟

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"إذا استطعت أن تعد أموالك، يعني هذا أنك لا تملك مليار دولار"
جين بول جيتي مستثمر وصناعي أميركي





محمد كركوتــي

استكمالاً لمقالي الذي نشرته الأسبوع الماضي بعنوان "مكافح ومحارب وثوري.. وثروات". أحاول في هذا المقال، أن أتناول الأموال التي سرقها الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، الذي يحب أن يُوصف بالمحارب، وكان يفخر مع آلته الإعلامية، بأنه وجه الضربة الجوية الأولى ضد إسرائيل في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973. مرة أخرى لا أعرف أين وجه البطولة هنا، إذا ما كان يقوم بواجبه العسكري والوطني، مثله مثل أي جندي شارك في تلك الحرب؟! يحارب المُحارب الآن على جبهة مشينة له، لكنه ليس صاحب الضربة الأولى فيها. والحقيقة، أنه في هذه الحرب، يتلقى الضربة تلو الأخرى، والهجوم بعد الآخر، دفاعاً عن نفسه وعائلته، من الاتهامات والبلاغات القضائية (المحلية والدولية) الخاصة بنهبه لعشرات المليارات من الدولارات الأميركية، باشر في جمعها –حسب بعض الروايات- حتى قبل أن يتسلم في العام 1981 مقاليد السلطة كرئيس لمصر، بالإضافة إلى عشرات أخرى من المليارات سُلبت من الشعب المصري، على أيدي عائلته الأوسع نطاقاً، المتمثلة بعشرات من الأشخاص، الذين منحهم "مناصب" رجال أعمال، ولعلهم "الرجال" الوحيدين في هذا العالم، الذين حصلوا على هذا التوصيف عن طريق التعيين! فنحن نعلم، أن رجل الأعمال يكتسب مقامه هذا، إما بالوراثة، أو عن طريق نشاطات استثمارية تبدأ صغيرة، وتمضي في دربها نحو الكِبر.

وإذا ما أخذنا رواية جريدة "الديلي تلجراف" البريطانية الرصينة بجدية، فإن مبارك بدأ معركته الذاتية بهذا الشأن، بعد ساعات من اندلاع ثورة 25 يناير، واستمرت ذاتياً، إلى أن أعلن نائبه (الأبطأ تعييناً إلى درجة الغيظ، والأسرع خروجاً إلى درجة الدهشة من موقعه) عمر سليمان، عن تخلي مبارك عن منصبه كرئيس للجمهورية. الجريدة تنقل عن مسؤول في المخابرات البريطانية، أن الرئيس المخلوع، لم يتشبث بالسلطة خلال الأيام الثمانية عشرة التي سبقت تنحيه، إلا من أجل تهريب ثروته وإخفاء ودائعه في حسابات يصعب رصدها. هذه الأيام، وفرت مساحة زمنية لمبارك وعائلته، لإجراء اتصالات ومشاورات مكثفة لإبعاد "ثرواتهم" عن عيون المحققين. وتتفق جميع المصادر الغربية التي تحظى بمصداقية، على أن مبارك قام قبل أن يُخلع، بتحويل كميات هائلة من الأموال، إلى جهات أخرى متعددة. فالأماكن التي خُزنت فيها قبل الثورة، باتت بعدها ملاذات خطرة على الأموال والأصول، خصوصاً بعد أن تغيرت سلوكيات الدول الغربية (لاسيما سويسرا) نحو الأفضل، حيال الأموال التي ينهبها الطغاة من شعوبهم.

كنت من أولئك الذين يشككون في الأرقام المتداولة عن ثروة مبارك وعائلته الصغيرة، والتي تراوحت ما بين 40 و70 مليار دولار أميركي (لا زيمبابوي)، على اعتبار أنه مُبالغٌ فيها. وإذا ما جمعنا ثروة مبارك مع ثروة عائلته الكبيرة بعض الشيء، فإن الأموال تصل إلى 210 مليار دولار أميركي. وكنت أشكك في هذه الأرقام، على الرغم من أن العديد من الجهات الإعلامية وغير الإعلامية الرصينة تبنتها. والحقيقة، أن الذي بدد عندي هذه الشكوك، هو ما أعلنه جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، بأن السلطات الأميركية جمدت ثروة للمخلوع المصري في الولايات المتحدة تبلغ 31,5 مليار دولار، وأن هذه الثروة موزعة في عدد من المدن الأميركية، وتشمل عقارات في نيويورك وكاليفورنيا وأرصدة في عدة مصارف. ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن السلطات الأميركية، نجحت في تجميد هذه الأموال والاصول، بعد أن نجح مبارك في التمويه على أموال أخرى في الأراضي الأميركية نفسها. السؤال التلقائي الذي يتبادر إلى ذهن أي متابع أو مراقب هو، إذا بلغت ثروة مبارك في الولايات المتحدة هذا الحد من الأموال الهائلة، فما هو حجمها في بقية البلدان؟ وهذا السؤال يسبق آخر هو، كيف استطاع الرئيس "المُحارب" جمع هذه الثروة؟

من الصعب –بل من المستحيل- الوصول إلى أرقام دقيقة للأموال المنهوبة من مصر، ولكن يمكن التأسيس دائماً على ما هو مُكتشفٌ أو مُجمد منها. ونحن نعلم أن الأموال المسروقة من الشعوب، لا يتم الحصول عليها عن طريق شيكات سياحية أو تحويلات مصرفية أو بواسطة بطاقات الائتمان. إنها تُنقل إلى الخزائن السرية بالحقائب والصناديق، على متن طائرات خاصة جداً، وفي أوقات ملائمة جداً جداً. وفي خضم الثورة المصرية، تم الكشف عن طائرات خاصة غادرت مصر إلى لندن، مُحملة بالحقائب المملوءة بالأموال المسروقة، وعلى متنها عائلات السارقين الهاربين من غضب الشعب الثائر. وإذا عرفنا، أن بريطانيا تمثل المكان الأمثل والمفضل لمبارك وعائلتيه الصغيرة والكبيرة، لتمرير الأموال (والأمر ليس كذلك في الولايات المتحدة)، علينا أن نتخيل حجم الأموال المكدسة في الخزائن البريطانية، بالإضافة إلى الأموال القابعة في خزائن سويسرية وفرنسية وألمانية وعربية، ومخازن الأموال في أشباه الدول. ربما سيكون الـ 70 مليار دولار المتهم مبارك بسرقتها، رقماً متواضعاً، والـ 140 مليار دولار التي سرقها رجال أعماله، مجرد "فكة" أو مصاريف نثرية أو لشراء "بلاي ستيشن" للأولاد!

كيف استطاع الرئيس المخلوع أن يجمع هذا الكم الهائل من الأموال، في بلد نامٍ؟ ولعل هذا السؤال الأكثر أحقية في الطرح من غيره. الجواب ليس صعباً، ولا يحتاج إلى محللين اقتصاديين يُعقِدون المسألة. لو تم "زواج" بين السلطة والمال في صحراء قاحلة، لأنتج مالاً مشيناً في مصادره، ومريعاً في كمياته. فكيف الحال، وهذا الزواج غير الشرعي، تم في مصر منذ ثلاثة عقود، ولم يتعرض لأي هزة تؤدي إلى الانفصال أو الطلاق؟ ورغم عدم شرعيته، فهو زواج كاثوليكي الالتحام والمصير، بل في الكثير من الأحيان، يتجاوز هذه الصفة إلى ما بعد الموت. ماذا فعل مبارك لتجميع "مكافأة" نهاية الخدمة؟ قام في ثمانينات القرن الماضي، بشراء ديون مصر بأقل من 35 في المائة من قيمتها الأصلية، وكان ابنه جمال المشتري الحقيقي لها، لأنه كان متأكداً – وهذا ما حدث بالفعل- من الحصول على 100 في المائة من قيمتها. وحسب محللين في لندن، فإن هذه الصفقة التاريخية لوحدها، يمكن أن تكوم جبال من الثروات. وماذا فعل أيضاً؟ باع أراضٍ عامة لنفسه وعائلتيه بـ "الملاليم"، ليعيد بيعها بمئات الملايين، أو ليحولها إلى مناطق "استثمارية" خاصة، ونفذ برامج خصخصة المؤسسات العامة، بأحط الطرق الممكنة، ووجه كميات من أموال المساعدات إلى حساباته وخزائنه المنتشرة حول العالم، بما في ذلك، أموال أجنبية كانت مخصصة لدعم الثقافة، وتوسيع نطاق وتأثير المكتبات العامة في الحياة العامة، وصيانة وحماية الآثار. لم يكتف الرئيس المخلوع بذلك، بل انضم إلى نادي أشهر المتهربين من الضرائب. فقد اكتشف النائب العام في مصر، بأن مبارك لم يدفع فلساً واحداً للخزينة العامة، كضريبة على الدخل، بما في ذلك راتبه الشهري!

يقول السياسي الأميركي الراحل وليام براين :"لا أحد يستطيع أن يجمع مليون دولار بصورة نزيهة". علينا أن نتخيل المزيد من الصور، التي جمع بها مبارك وعائلتيه الأموال في بلد، يعمل 17 مليون نسمة فيه بنظام "المياومة"، ويقبع 40 في المائة من سكانه تحت خط الفقر، ويعيش فيه 30 في المائة من الأميين. إنها قصة صدمت التاريخ المُعاش، وستصدم التاريخ المقبل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق