الاثنين، 28 فبراير 2011

سارقون.. سارقون لآخر مدى

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





" الفأر ليس هو السارق، بل الفتحة التي تمكنه من المرور بها"
هيرمان جاكوب قاض أميركي





محمد كركوتــي

كانت حادثة تثير الاشمئزاز والشعور الفوري بالتقيؤ. كنت جالساً مع أصدقاء في بهو أحد الفنادق اللندنية، عندما أتى رجل بسمات عربية- إفريقية، وطلب مني (ربما لأني كنت أكبر الجالسين سناً)، أن ننتقل إلى جهة أخرى في المكان نفسه. وعندما استفسرت عن السبب قال لي: إن السيد سيف الإسلام القذافي (يحتل "منصب" نجل العقيد معمر القذافي منذ ولادته!) ومرافقيه، يرغبون في الجلوس في نفس المكان، وأن نجل "قائد الثورة" يعتبرنا ضيوفه. بمعنى آخر، إنه سيسدد الفاتورة. لم أكلف نفسي عناء الرد على هذا الرجل، فطلبت من أحد العاملين استدعاء مدير الفندق الذي أتى في غضون ثوان، وأمرته بصوت مسموع أن يُبعد هذا الرجل، معبراً عن عدم اهتمامي في أي مكان يرغب الجلوس فيه، هو أو حتى والده، إن وجد آنذاك. أخذ المدير رجل القذافي مبتعدان إلى حيث كان يقف سيف الإسلام، وعلى وجهه علامات "الغضب الباسم". فقد عرف، أن تطور المشهد لن يصب إلا في مصلحتي، وأن السلوك الاستبدادي لا يصلح إلا في ليبيا، وغيرها من الدول، التي اختُصرت حضاراتها وكراماتها وإمكانياتها ومقدراتها، مع تاريخها، في شخص واحد، يأسف في قرارة نفسه، أن زمن الأنبياء توقف قبل أكثر من 1400 سنة. مدير الفندق (الإنجليزي الأنيق)، همس لأحد أصدقائي عند خروجنا، بأن سيف الإسلام، كان يود نفحنا بمكرمات مالية، كما يفعل عادة في مثل هذه الظروف. فرد عليه الصديق: تقصد أنه ينفح بمسروقات مالية، وتركه بعد أن أودع في وجهه نظرة اشمئزاز.. وانصرف.

تذكرت هذه الحادثة، وسط طوفان من المعلومات عن الثروة المقدرة لمعمر القذافي وعائلته. ورغم اختلاف مصادر المعلومات، إلا أن هناك شبه تطابق حول قيمة الثروة، والأماكن التي تصب فيها. وتذكرت أيضاً الأموال التي بُددت على مدى أربعين عاماً، في كل الأرجاء. إقليمياً وعالمياً. وتذكرت، كيف أن هذه الثروة والأموال المبددة، ألغت اقتصاد دولة بأكملها، تماماً كما ألغت "الثورة" حضارة وطن بأكمله. في ليبيا الاقتصاد –إن استحق هذا التوصيف- يخص أسرة واحدة، ولا بأس من وجود أسرتين أو ثلاث إلى جانبها! والنمو لا يُحسب فيها بالمقدرات والحراك الاقتصادي، بل بالهبات التي يجود بها القذافي نفسه.

تلك الحادثة، دفعتني لاستعراض حال الليبيين البالغ عددهم 6 ملايين و400 ألف، بينهم 1,5 مليون عاطل عن العمل، و30 في المائة من المجموع الكلي للسكان، يعيشون تحت خط الفقر، في الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه متوسط دخل الفرد السنوي 8400 دولار أميركي، وأكثر من 17 في المائة منهم في عداد الأميين. وماذا أيضاً؟ تنتج ليبيا من النفط ما يقرب من 2 مليون برميل يومياً، وتعيش فوق احتياطي مؤكد من النفط يصل إلى 42 مليار برميل، ويبلغ إجمالي الدخل القومي أكثر من 50 مليار دولار سنوياً، لكن قلة من الليبيين يشعرون بهذا الدخل. ماذا يفعلون؟ يقوم المئات من الشباب الليبي يومياً، بمحاولات الفرار باتجاه أوروبا، بل هناك من يحاول الهروب حتى إلى دول أفريقية، هي نفسها تحتاج إلى مساعدات لمواصلة الحياة! لا يوجد في ليبيا صندوق للأجيال القادمة، بل هناك صناديق للأنجال، يخصصون جزءاً منها لتشكيل كتائب عسكرية تسمى بأسمائهم! والنمو الاقتصادي في ليبيا يبدو سرياً، تماماً مثل النمو الذي تحققه الصناديق المشار إليها. والقرارات التي تحدد مصير الاقتصاد، هي إما تلقائية أو عفوية أو مزاجية. في إحدى المرات، قرر القذافي إلغاء الأوراق المالية، ودعا إلى التعامل بالمقايضة! أي أنك تقدم بيضاً لتحصل على وقود! وفي مرات أخرى، دعا إلى توزيع عوائد الثروة النفطية على شعبه نقداً، أي مثل عمال "التراحيل"! ودعا في المناسبة نفسها، إلى إلغاء المدارس والجامعات، وطالب الأسر الليبية بـ "تأجير" المعلمين والأساتذة لأبنائهم! لا غرابة في ذلك، عندما يتوصل "الفيلسوف" إلى اكتشاف هائل الوقع، ضمن نظرية لم يفهمها إلا هو. فقد اكتشف أن المرأة مختلفة عن الرجل، لأنها تحيض، والرجل لا يحيض، وأن الديمقراطية ديكتاتورية، لأنها تعني "ديمو كراسي"، أو الديمومة على الكراسي!

وسط هذه الفوضى المدمرة، تخرج التقديرات عن ثروة العقيد معمر القذافي بين 80 إلى 131 مليار دولار أميركي. وبحساب بسيط، فهي تعادل (بحدها الأقصى) 6 أضعاف ميزانية ليبيا كلها لعام 2011، والتي تبلغ 22,4 مليار دولار. وطبقاً لبحث عن الأمن الغذائي العربي، فإن واردات الوطن العربي من الغذاء سنوياً تتراوح بين 20 و25 مليار دولار، ما يعني أن ثروة القذافي تكفي لسد حاجة سكان الوطن العربي البالغ تعدادهم نحو (340 مليون نسمة) من واردات الغذاء بين 3 و4 سنوات. هذه الثروة موزعة في كل أنحاء الأرض، لاسيما عند صديقه المتهاوي رئيس وزراء إيطاليا سيلفيو برلسكوني، وفي بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. إنها على شكل أرصدة، واستثمارات في شركات بترول وقصور ويخوت وأندية أوروبية. والحق أن القذافي "عادل" في توزيع الثروة على أبنائه. فحسب التقديرات المتداولة، منح 5 مليارات دولار أميركي بالتساوي لكل واحد منهم. لم يظلم أحد! واستناداً إلى جريدة "التايمز" البريطانية الرصينة، فإن القذافي (وعائلته) هو المسيطر الأوحد على كافة قطاعات الاستثمار في ليبيا، وعلى رأسها النفط، وهذه الاستثمارات يمرر معظمها من خلال إيطاليا.

الثروة التي لم يحتفظ بها معمر القذافي، وزعها تبديداً في كل الأرجاء. فقد أنفق مئات الملايين من الدولارات، دعماً لمنظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي. ولأنه خاف من مصير زميله العراقي صدام حسين، فقد قدم لائحة بالأسلحة ومخابئها وبأسماء كبار المسؤولين في المنظمة، إلى المخابرات البريطانية. وقد دخل التاريخ أيضاً، كمُسدد لأكبر تعويض في التاريخ البشري بلغ 1,5 مليار جنيه إسترليني، عندما خاف على نفسه، ودفع تعويضات لأسر ضحايا طائرة الركاب الأميركية التي انفجرت في أواخر ثمانيات القرن الماضي فوق بلدة لوكربي الاسكوتلندية. أنفق مليارات الدولارات دعماً لفصائل أفريقية، هي في الواقع بمنزلة "قطاع الطرق". ولأنه أحب الألقاب، بدد مئات الملايين من الدولارات، على مجموعة من رؤساء القبائل الأفريقية، الذين يلبسون الريش ولا يعرفون الملابس، من أجل الحصول على لقب ملك ملوك أفريقيا. واشترى بمئات غيرها، لقب إمام المسلمين، من "بائع" مجهول!

بعد انتفاضة شعبه، انشغل معمر القذافي في شيئين، لا ثالث لهما. الأول: قتل ما أمكن من الليبيين، وتحويل البلاد من "خضراء" إلى حمراء من فرط سيلان الدم الليبي. والثاني: إخفاء ثروته بأسرع وقت ممكن، وبأفضل طرق متاحة. فهو يعرف، أن زمن هروب الطغاة بأموال شعوبهم قد تغير. صحيح أن هذا الزمن لم ينتهي تماماً، ولكنه بالتأكيد تغير بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. فهو مرة يأمر طائراته بضرب المدنيين العزل، ويوجه المرتزقة إلى أماكن القتل، ومرة يُجري الاتصالات ويرسل المبعوثين، لنقل المليارات من الدولارات، من مكان إلى آخر. لندن تحقق، روما برلسكوني تنتظر، واشنطن تجمد، باريس تتصل، بيرن (سويسرا) تحجز، برلين تتحرى. وفي ظل هذا المشهد، ارتبك القذافي، تماماً كما ارتبك أما المد الشعبي الليبي نحوه.

لم يفهم "ملك ملوك أفريقيا"، أن الوقت أهم من المال. بالإمكان نهب المزيد من الأموال، لكن يستحيل الحصول على مزيد من الوقت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق