الاثنين، 31 يناير 2011

"تيار" الفقر والبطالة وراء الانتفاضات التلقائية

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





" أياً كانت نسبة البطالة.. فهي تقلقني"
جيرهارد شرويدر مستشار ألمانيا السابق

 
 
 
محمد كركوتـي
 
تستطيع أي جهة أن تدعي حصة أو حتى قيادة في المظاهرات الشعبية التي تندلع تلقائياً، لا عفوياً. ويستطيع أي حزب سياسي الإدعاء أيضاً بأنه هو الذي يغذي إيديولوجياً هذه المظاهرات، التي تصفها عادة الأنظمة المستَهدفة بـ "مظاهرات مثيري الشغب أو انتفاضات الحرامية". ويمكن لأي تيار سياسي، القيام بمحاولات لركوب هذه المظاهرات، أو للاستحواذ عليها، كما يمكن حتى للأفراد أو الشخصيات المستقلة، أن تحاول الحصول على ما أمكن لها من الرصيد الشعبي والوطني لهذه المظاهرات. كل هذا مرتبط بمدى نجاح المظاهرات الاحتجاجية، وحجم الانجراف الشعبي معها، ومستوى جماهيريتها. ومرتبط أيضاً، بمدى اهتزاز الأنظمة من ترددات زلازلها. ولذلك نسمع عادة الأصوات المُدعية تعلو في مراحل متقدمة لهذه المظاهرات أو الاحتجاجات أو الثورات أو الانتفاضات. وكلما حققت خطوة نوعية، ارتفعت هذه الأصوات درجة. تبدأ بالحناجر، وتنتهي بمكبرات الصوت المتنقلة، أو تبدأ همساً وتنتهي صراخاً. إنها نوع من أنواع الانتهازية التي ظهرت في التاريخ كثيراً. فحتى الثورة البلشفية الشهيرة في روسيا، قامت في الواقع مطلع القرن العشرين، عن طريق استحواذ التيار الشيوعي (الذي كان في مرحلة التشكل) على تحركات شعبية تلقائية، اندلعت من أجل كرامة الحياة. ركبت هذه الثورة الموجة بأعلى درجة من الذكاء والتدبير، وبأعلى مستوى من العنف أيضاً.

ليس مهماً أن يُعلن هذا التيار أو ذاك أحقية ما في هذه الانتفاضة أو تلك، وليس مهماً أيضاً الإدعاء بدور أو بآلية تحريك مهما صغر حجم الإدعاء أو كبر، مع التأكيد على أن المدعين لن يتوقفوا عن محاولات قطف ثمار المجهود الشعبي والوطني. ومهما كثر المدعون وتنوعوا، فـ"التيار" التي يقف وراء المظاهرات الوطنية، ليس سوى الفقر. وهذا "التيار" يفرز في الواقع تيارات عدة، في مقدمتها البطالة، بالإضافة طبعاً إلى الظلم، وغياب العدالة الاجتماعية، والفساد الذي يجسد دائماً عدم تكافؤ الفرص. بعض المتمسكين بصوابية الأنظمة وامتعاضهم من الانتفاضات التلقائية، يبرر ارتفاع معدلات البطالة، خصوصاً في أوساط الشباب والخريجين، بأن هناك بطالة في كل دول العالم، بما في ذلك الدول المتقدمة الثرية. وبالطبع لا يقول هؤلاء: إن العاطلين في الدول المتقدمة، لا يعيشون عند أهاليهم، ولا يقتسمون اللقمة معهم. ولا يقولون أيضاً: إن الحكومات في الدول المذكورة، توفر للعاطلين الحد الأدنى من الدعم المالي الذي يحفظ الكرامة، في معركة البحث عن وظائف، ولا يقولون: إن الحكومات نفسها، تقدم للعاطلين برامج تدريبية لتجعلهم أكثر جاذبية لسوق العمل، ولا يقولون: إن هناك تكافؤ في نطاق البحث عن فرص العمل. لا يقولون: إن التأمينات الاجتماعية، تجنب العاطلين البحث عن لقمة في صناديق القمامة. وبالتأكيد لا يقولون: إن المظاهرات التي تندلع بين الحين والآخر في الدول المشار إليها، لا تواجَه بالدبابات ولا بمندسين من عناصر الأمن فيها. ولا يذكرون – على سبيل المثال– ما قاله ذات مرة رئيس الوزراء البريطاني الراحل هارولد ويسلون:"إن أفضل جائزة يحصل عليها رئيس دولة، أن يحظى بنوم هانئ لليلة واحدة".

نعم "تيار" الفقر "المنتج الأوتوماتيكي" المباشر للبطالة، هو الذي يُطلق الانتفاضات أو المظاهرات، ويُطلق معها مُتغيرات تتجاوز الحكومات فور حدوثها، وهو الذي يرفع سقف المطالب، بصورة يصعب على الأنظمة أن تطاولها، أو حتى أن تلاحقها. بين العامين 2005 و2008 بلغت معدلات البطالة في الدول العربية 12 في المائة، وذلك طبقاً لتقرير الأمم المتحدة حول "أهداف التنمية في الألفية الثانية". والحقيقة أن هذه النسبة ليست دقيقة، فهي تستند إلى أرقام حكومية يصعب الاعتماد عليها، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن هذه النسبة – رغم عدم دقتها- تشمل السنوات التي سبقت اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، التي بدورها أضافت مزيداً من العاطلين إلى صفوف زملائهم. وفي كل الأحوال، فإن البطالة في أوساط الشباب العربي تصل إلى 30 في المائة، وهي نسبة لا تماثلها أخرى على مستوى العالم أجمع. والمصيبة، أن هؤلاء الشباب ينظرون إلى أنفسهم كعالة على مجتمعاتهم، حتى قبل أن يجتازوا مرحلة التعليم والإعداد، على اعتبار أن "المكتوب يُعرَف من عنوانه"، وأنهم لن يحصلوا على فرص عمل حتى لو تمكنوا من النجاح بامتياز. فكيف يمكن التعاطي مع شباب يتسرب الإحباط إليه، حتى قبل أن تأتي ساعة الحقيقة؟ وينتشر اليأس في صفوفه قبل أن يخوض غمار العمل أو سراديبه! إن هؤلاء ليسوا مُسيسين، وليسوا حالمين أيضاً. إنهم لا يريدون أكثر من حقهم بالعمل والعيش الكريم. وسواء كانت هناك أزمات اقتصادية كبرى أو صغرى تواجه هذه الحكومة أو تلك، فإن أحداً لا يمكنه أن يقبل بمبررات لتكدس العاطلين، ومبررات أخرى لحرمانهم من الضمان الاجتماعي، أو شيء منه.

لم تحقق غالبية المشاريع التي طرحتها الحكومات العربية للحد من البطالة أية نتائج مُرضية، خصوصاً في أوساط الخريجين. بل أن بعضها تحطم برمته أمام الحقائق الموجودة على الساحة. لماذا؟ لأن الخلل في سوق العمل ما زال قائماً، ولأن الموائمة بين مخرجات التعليم والتأهيل وبين احتياجات السوق لا زالت مفقودة، ولأن الظلم في توزيع الوظائف مازال سائداً. فكلنا يعرف أن بعض البلدان العربية، لا توظف أي خريج مستحق للعمل فيها، إذا لم يكن منتسباً للحزب الحاكم، أو دائراً في فلك المجموعات التابعة لهذا الحزب. وحتى فرص التعليم العالي في البلدان المشار إليها، خاضعة لهذه الاعتبارات. فلا عجب – مثلاً- أن يكون الحزب الحاكم الهدف الأول للثورات التلقائية، ورموزه الأهداف الأكثر وضوحاً أمامها. صندوق النقد الدولي يرى –على سبيل المثال- أن الانتفاضة التي شهدتها تونس، وأدت إلى فرار الرئيس زين العابدين بن علي من غضب المنتفضين، تظهر أهمية إيجاد حلول سريعة للبطالة في العالم العربي. ووجد مسؤولو الصندوق أن "ضغوطاً اقتصادية تتراكم في المنطقة. وأن تسوية مسألة البطالة المرتفعة، هو تحد اقتصادي معروف منذ زمن طويل، ولكنه أصبح أكثر إلحاحا". والحقيقة أن الأمر لا يحتاج إلى تحليل من صندوق النقد أو أي مؤسسة عالمية أخرى. فطالما هناك بطالة هائلة، كانت هناك آليات لتحرك شعبي تلقائي يكسر حاجز الخوف من كل شيء وعلى أي شيء. فعندما لا يمكن الإنسان شيئاً، لا يخشى من الخسارة.

لقد كان العاطلون عن العمل في السابق، مكدسون في المقاهي ودور السينما التي تعرض الأفلام الرديئة بدون توقف. الآن تركوا هذه الأماكن، لأنهم باتوا عاجزين حتى عن مواجهة تكاليفها المالية البسيطة. لقد خرجوا إلى الشارع، بدون إيديولوجيات أو مؤثرات سياسية، للمطالبة بحقوقهم في العمل والأمل، وفي حياة كريمة. إنه تيار البطالة هذا الذي يقود الشارع الآن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق