الثلاثاء، 11 يناير 2011

هَرِمٌ في عز طفولته

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")







"عمالة الأطفال يجب أن لا تتحول إلى منظومة أمان اقتصادي واجتماعي"
كايلاش ساتيارسي المنسق العام للحركة العالمية المناهضة لتشغيل الأطفال

 
 
محمد كركوتـي
 
إذا كانت البطالة تستحق توصيف أزمة، فإن عمالة الأطفال لا تستحق توصيفاً أقل من مصيبة. وإذا كان الفقر كارثة مُعيبة للمجتمع، فإن القبول بتشغيل الأطفال (كحل متواضع للفقر)، هو بمثابة كارثة مشينة. لا مجال هنا للتوصيفات المعتدلة أو "التجميلية"، ولا مكان للمبررات مهما كانت قوية. ولا مساحة هنا أيضاً، لذلك السؤال المريع: إذا كانت عمالة الأطفال تقلل شيئاً من آلام الفقر.. فهل تؤيدها؟!. وبطرح آخر، إذا كان الطفل يستطيع أن يؤمن من عمله خبزاً لأسرته.. فهل تقف في وجهه؟!. وبصيغة أكثر مباشرة، إذا كانت الأسرة تموت جوعاً.. هل تمنع طفلاً فيها من العمل؟!. أقول لا مساحة لهذا السؤال، لأن الفقر هو بالضرورة عار ارتكبه المجتمع، ومعه الأنظمة القائدة له، ولأن تشغيل الطفل هو بالتأكيد جرم مشين ارتكبه الجميع، إلا الطفل نفسه. وحول هذه النقطة بالتحديد، أتذكر ما قالته طفلة من بنغلاديش، اسمها سلطانا، في الثانية عشر من عمرها تعمل بمصنع للملابس في بلادها. قالت: " لماذا ينبغي علينا دفع فاتورة الفقر؟. نحن لم نصنع الفقر، البالغون هم الذين صنعوه"!!. بعد سلطانا بسنوات، قال أوم باركاش الحائز على جائزة نوبل للسلام :" من حقنا أن يصغي إلينا الكبار – قصد هنا البالغين -. وإذا لم يسمعوا إلينا، سوف نعمل بقوة وثبات وجهد لنجعلهم يصغون".

لابد من الإشارة، إلى أن عمالة الأطفال هي عبارة عن سرطان يصيب كل المجتمعات المتقدمة وغير المتقدمة، وينال من الدول النامية وتلك التي نمت واستقرت نمواً. وكما للسرطان مستويات، بين السطحي والقاتل، كذلك عمالة الأطفال، هي سطحية في المجتمعات المتقدمة، وقاتلة في غيرها. وبما أنه لا تتوفر إحصائيات دقيقة عن حجم عمالة الأطفال في العالم، باعتبارها عمالة غير شرعية، وحراكها يجري تحت الأرض، إلا أن تقارير المنظمات الدولية المستقلة، تتفق على أن عدد الأطفال المنخرطين بأسواق العمل، على مستوى العالم يقدر بنحو 300 مليون طفل وربما أكثر، من بينهم أكثر من 90 في المائة في قارتي آسيا وأفريقيا!. مهلاً.. مهلاً، من بين هؤلاء هناك مائة مليون طفل مشردين في الشوارع، ومليونان يتعرضون للاستغلال الجنسي!. أيضاً.. الغالبية الساحقة من المشردين الأطفال، "يسوحون" في القارتين الأفريقية والآسيوية، اللتان تضمنان كل الدول العربية مجتمعة، مع التذكير – لمن نسي – بأن قوانين دول العالم كلها، تمنع تشغيل الأطفال تحت أي مسميات، وبالطبع تتضمن الكثير من العقوبات على من يخالفها. لكن لا القوانين ولا معايير المجتمعات ساهمت في الحد من هذه الجريمة المتواصلة والمستدامة (التي أصبحت اقتصاداً بحد ذاتها)، بل هناك من يبرر الجريمة على اعتبارها تساهم في تخفيف حالة الفقر المدقع!. لم يسمع هؤلاء ما قاله زعيم التبييت المنفي دالاي لاما (لاما تعني بلغة التبييت "محيط الحكمة"): "إن مشاكل هذا العالم بما في ذلك تشغيل الأطفال والفساد، هي أعراض لأوبئة روحية، وافتقار إلى الرحمة".

للعرب حصة مريعة من "الأطفال الهَرمون"! أو "الأطفال الكبار قسراً"! أو "الأطفال البالغون بقرار"!. تضاف إلى حصصهم الهائلة من البطالة والأمية، وإلى تخلفهم عن بعض بديهيات الحياة نفسها. فقد أقرت سوريا رسميا عن طريق وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، بالعجز في مواجهة عمالة الأطفال. وأقرت أيضاً، بأن نسبة الأطفال العاملين الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و14 سنة، تشكل 4 بالمئة من النسبة الكلية لعمل الأطفال!. وحسب المكتب الإقليمي لمنظمة العمل الدولية، فإن سوريا تعج بـ 650 ألف طفل، يعمل أغلبهم في القطاع الزراعي والمؤسسات العائلية!. وفي لبنان، يقدر عدد "القوى" العاملة من الأطفال بأكثر من 45 ألف طفل، في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 4 ملايين نسمة. ولا توجد تقديرات عن أعداد الأطفال الفلسطينيين العاملين الذين يعيشون في هذا البلد. ولا شك في أنها ستكون هائلة. وبالانتقال إلى الأردن، تؤكد دائرة الإحصاءات العامة – حسب إحصاء العام 2007 - بأن عدد الأطفال العاملين في قطاعات الزراعة والأعمال المنزلية وغيرها يبلغ 33 ألف طفل، أي بنسبة 2 في المائة تقريباً من عدد سكان البلاد!. وفي تقرير رسمي يمني، وصل متوسط معدل نمو عمالة الأطفال في اليمن إلى 3 في المائة سنوياً من إجمالي عدد الأطفال العاملين ما دون سن الـ 12 عاماً!. وأن الإناث يمثلن نسبة 51 في المائة من إجمالي الأطفال العاملين، المقدر تعدادهم بـ 3,2 ملايين طفل وطفلة.

وأتوجه إلى العرب في أفريقيا، حيث يصل عدد الأطفال العاملون في مصر إلى مليونين و786 ألف. وطبقاً لوزارة القوى العاملة المصرية، فإن هؤلاء يعملون في ظروف صعبة تعرض حياتهم للمخاطر الدائمة، كما أنهم يعملون فترات طويلة تتجاوز أوقات العمل للكبار. لا مجال هنا للشكوى، لأن العمل غير الشرعي، ليست له ضمانات عمالية شرعية. وأنقل عن المندوبية السامية للتخطيط في المغرب، بأن 16.6 في المائة من "الأطفال الكبار قسراً" في المغرب، يجمعون بين العمل والدراسة، وأن 1. 56 في المائة متسربون من التعليم، بينما لم يسبق لـ3. 27 في المائة منهم الذهاب للدراسة!. وفي الجزائر أظهرت دراسة مسحية أعدها أكاديميون جزائريون، أن عدد الأطفال العاملين يصل إلى 1.8 مليون طفل، من بينهم 1.3 مليون تتراوح أعمارهم بين 6 و13 عاماً، ومنهم أيضاً 56 في المائة من الإناث. في حين أحصت الدراسة 28 في المائة من الأطفال العاملين الذين لا يتعدى سنهم الـ15 عاماً!. وتقدر المؤسسات الدولية والمحلية العربية عدد الأطفال العرب العاملين بأكثر من 13 مليون طفل!. ثلاثة ملايين منهم تقريباً في بلد كمصر!.

والمصيبة، أن هذه الإحصائيات أو التقديرات، تعود في غالبيتها إلى ما قبل انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، التي زادت – كما هو معروف – من المآسي والكوارث الاقتصادية والاجتماعية، في كل بلدان العالم، خصوصاً الدول الفقيرة أصلاً. وقد استغل "المشغِلون المُشينون" تلك الأزمة الحاضرة دائماً، بإتباع أحقر أنواع التشغيل. فقد اكتشفت حكومات في دول غربية، أن بعض المؤسسات والشركات التي تخلصت من نسبة من موظفيها وعمالها، قامت بإحلال أطفال في أماكنهم. فالطفل العامل، يتقاضى أقل ولا يظهر في ملفاتها ضمن لوائح العاملين، وبالتالي لا حقوق له، ولا تأمينات أو ضمانات. فإذا كان هذا التشغيل القبيح تجري في دول متقدمة، تحكم حراكها الاقتصادي قوانين متماسكة ورقابة مشددة تكفل حقوق العاملين، لنا أن نتخيل الأمر في الدول الأخرى!. ولنا أن نشاهد – قسراً – طفلاً يحمل معولاً بدلا من حقيبة المدرسة!. أمام هذا المشهد، لا مجال هنا للنيات الحسنة، والتمنيات الطيبة، والإدانات الإعلامية، والتصريحات الثورية. كما أنه لا مكان هنا أيضاً لدموع صادقة لا تجلب لذارفها إلا احمرار عينيه، ولا تقدم للضحية شيئاً.

في مقال سابق لي، كتبت عن مصيبة عمالة الأطفال، ووصفتها بأنها قضية الأمس.. يحضنها اليوم.. ليقذفها إلى الغد. ومع استفحال المصيبة، خصوصاً على الساحة العربية، أقول: إنها مصيبة ما بعد الغد أيضاً. إنها تغير في " الجينات" البشرية، عن طريق تحويل اليافع إلى هرم، في عز طفولته!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق