الثلاثاء، 18 يناير 2011

قنبلة الغذاء "النووية"

(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")




" المنزل لا يكون منزلاً إذا كان خالياً من الطعام "
بينجامين فرانكلين أحد مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية





محمد كركوتـي

أيهما أخطر على أنظمة الحكم في العالم كله؟ التيارات السياسية المعارضة لها، أم ارتفاع أسعار المواد الغذائية ( ولاسيما الأساسية منها)؟. أيهما أشد وطأة على هذه الأنظمة؟ فصيل سياسي نشط "يقض المضاجع"، أم زيادة بضعة قروش لسعر رغيف الخبز؟. أيهما يهز الاستقرار السياسي (بصرف النظر عن طبيعته، ديمقراطية كانت أم ديكتاتورية)؟ تفجير هنا وآخر هناك تقوم به مليشيا إرهابية ما، أم احتجاج شعبي قد يتحول إلى انتفاضة وبعدها إلى ثورة، التي بدورها قد تؤدي إلى الانقلاب؟. لا مجال للمقارنة هنا. فاحتواء هذا التفجير، أسهل مئات المرات، من الوقوف في وجه احتجاج شعبي عفوي، لا خلفيات سياسية، ولا آليات ميليشيا له. والجدل السياسي العنيف مع هذا الفصيل، أهون آلاف المرات، من انتفاضة شعبية، لا تهدف إلا للحصول على حق المنتفضين فيها بالطعام الممكن، لا الطعام الفاخر، وفي اللقمة المشبعة، لا اللقمة الفائضة أو المتخمة. والشتائم والاتهامات المتبادلة بين النظام ومعارضيه لا قيمة لها، أمام شخص مشغول بحرق نفسه، لأن قيمة رغيف الخبز بالنسبة له، باتت بقيمة علبة فاخرة من الكافيار، ولأن حلمه بعشاء يقي من الموت، مثل عشاء في مطعم "مكسيم" الباريسي الفاخر جداً.

قليلة هي أنظمة الحكم في هذا العالم، التي تفهم هذه الحقائق في وقتها، لا في مرحلة اللاعودة. وقليلة هي تلك الأنظمة، التي تعتبر أن الخبز وسعره، أهم بكثير من حزب المعارضة وقيمته. وإذا كانت هذه المعادلة في الدول الديمقراطية تؤدي حتماً إلى التخلص من الحكومة عبر البرلمان ومجالس الشعب، فإنها في الدول غير الديمقراطية تؤدي بالتأكيد إلى زوال الحكومة عبر الشارع، الذي يتحول (دون تخطيط أو برنامج)، إلى صاحب الكلمة الحاسمة، التي تؤدي بدورها إلى تقهقر سقف النظام، وارتفاع سقف الشارع. إنها معادلة بسيطة، لا تحتاج إلى مُفسِر. فكلما ارتفعت حدة الجوع، ارتفعت معها حدة النقمة، وكلما تأخرت الأنظمة في فهم الأولويات، كلما اقتربت نهاياتها، وفي أحسن الأحوال، كلما زادت هشاشتها تمهيداً لنهايتها.

يعيش العالم اليوم، أسوأ حالة فيما يرتبط بالغذاء، ليس من جهة شحه بل من ناحية ارتفاع أسعاره. وتواجه الحكومات - على المستوى العالمي - مخاطر جمة، تهدد وجودها، بل وتهدد استقرار بلدانها، من جراء الارتفاع المتزايد لأسعار المواد الغذائية الأساسية، إلى درجة بات معها تدخل المجموعات العالمية التي تمسك بزمام الأمور والمبادرة الاقتصادية، أمراً ملحاً، بل وواجباً قبل فوات الأوان. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن أسعار الغذاء ارتفعت في الشهر الأخير من العام الفائت، إلى مستوى فاق الحد الذي وصلت إليه في العام 2008، عندما كان المراقبون يقولون: إنها وصلت إلى معدلات تاريخية، لم يكن يتوقعها أحد!. ولأن الأمر كذلك، فإن المخاوف باتت متعاظمة من انفلات التضخم، واتخاذ إجراءات حمائية، واندلاع قلاقل واضطرابات، وتراجع طلب المستهلكين في اقتصادات ناشئة رئيسة. بعض المسؤولين ( من بينهم رئيس اندونيسيا)، طالبوا مواطنيهم بزراعة غذائهم في حدائقهم الخاصة!. وبعض هؤلاء المسؤولين، قام بالفعل بالزراعة في حديقته الخاصة، ليبرهن لمواطنيه "جدية" المطالب. وكأن كل فرد من شعوبهم يمللك حديقته الخاصة!.

الحقيقة.. أن القضية أكبر وأخطر من ذلك بكثير. كما أنها أعظم من زراعة بضعة حبات من الطماطم والفلفل والخيار. فهي تختص بكيفية الحد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية برمتها على المستوى العالمي، والوصول إلى حالة من الأمن الغذائي العالمي، لاسيما في البلدان الفقيرة، التي لا تعاني فقط من ارتفاع الأسعار، بل ومن شح المياه، ومن تراجع الاستثمارات بأنواعها فيها ( بما في ذلك الزراعية)، ومن نقص في الدعم الزراعي المادي والإرشادي أيضاً. يضاف إلى ذلك – وهذه نقطة خطيرة للغاية – أن إجراءات الحمائية الزراعية، تساهم إلى حد بعيد في ارتفاع الأسعار. فقد ثبت أن الأسواق الحرة الخاضعة للضوابط ( لا المفتوحة على الغارب)، هي وحدها التي يمكن أن توفر مواد غذائية أساسية، بأسعار "ممكنة" لا مستحيلة.

إذن.. القضية ليست وطنية أو محلية، وليست إقليمية. إنها قضية عالمية تاريخية بكل معنى الكلمة. ولأنها كذلك، فلابد من تدخل عالمي على مستويات كبرى، ترقى إلى مجموعة العشرين، ولا بأس من مجموعة الثماني. ورئيس البنك الدولي روبرت زوليك، كان على حق عندما أعلن صراحة، "بأن الرد على تقلبات أسعار المواد الغذائية ( والأفضل له أن يقول: ارتفاع الأسعار)، ينبغي أن لا تُعتبر بمثابة مقاضاة أو وقف عمل الأسواق، بل استخدامها بشكل أفضل، ومن خلال إعطاء القدرة للفقراء، يمكن لمجموعة العشرين اتخاذ خطوات عملية نحو ضمان إتاحة المواد الغذائية". والحقيقة أن التدخل الدولي، سيكون ملائماً الآن أكثر من أي وقت مضى، للبلدان الفقيرة، التي تعج بأكثر من 1,02 مليار جائع. كما أنه سيرسم معالم حقيقية لمستقبل الغذاء بشكل عام. وهذه القضية بالتحديد تفوق أزمة الديون الحكومية ومشاكل المصارف الغارقة، بل وتفوق حتى كارثة البطالة. فكل قضية ترتبط باللقمة، هي بمثابة "قنبلة نووية" قابلة للانفجار في أية لحظة. فقد صدق المدير العام السابق لوكالة الطاقة الذرية الدولية محمد البرادعي عندما قال: "إن أسلحة الدمار الشامل الحقيقية، هي في الواقع الفقر والجوع".

لنكن صرحاء لبعض الوقت. لم تنفع قمم الغذاء والمؤتمرات المنبثقة عنها واللجان المُشَكلة منها، طوال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، في الوصول إلى صيغة مُرضية، لعلاج أزمة الغذاء العالمي، من حيث نقصه وارتفاع أسعاره، مع التقدير – بالطبع – لحسن النوايا في هذا المجال (وهي موجودة، بصرف النظر عن زخمها). وأقصى ما وفرته هذه المحافل الموسمية وأدواتها، أرضية هشة، لا تصمد أمام ''أرق'' الأزمات! أرضية تتلاشى مع أول مشكلة، سواء كانت بيئية أو بشرية أو اقتصادية أو سياسية. أرضية يغرق فيها المنقذون، فما بالنا بالمُنقَذين!.

وعلى هذا الأساس، لابد من أن تخرج مسألة الغذاء العالمي من ملفات المنظمات، إلى أيدي الدول التي تملك مفاتيح القرار الاقتصادي العالمي اليوم. فهذه الدول التي ترسم معالم النظام الاقتصادي العالمي الجديد ( ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية)، تعرف بأن النظام المزمع، لن يستقيم أو يحقق خطوات ناجحة، إذا لم يكن نظاماً متكاملاً، يأخذ في الاعتبار مصالح الأسواق المالية وما يرتبط بها، ومصالح البشر الإنسانية المباشرة.

وهل هناك أكثر مباشرة من اللقمة؟!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق