الاثنين، 24 يناير 2011

"بلاطات" لأموالهم؟

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










"اللص يعتقد أن الجميع يسرقون"
إدوارد هاو كاتب أميركي

 
 
محمد كركوتـي
 
يخرج هذا الحاكم أو ذاك مطروداً من بلاده (وغالباً فاراً منها)، بعد تحرك شعبي أو انقلاب عسكري، وعلى الفور يُطرح السؤال الثاني بعد الأول (الأول هو أين ذهب؟)، كم تبلغ الثروة التي جمعها طوال سنوات حكمه؟ ومن السؤال نفسه يظهر سؤالان. ما هو حجم ممتلكاته غير المنقولة؟ وأين يحتفظ بالأموال. هذا طبعاً إلى جانب الأسئلة التقليدية المتفرعة، حول ثروات أركان الحكم وأفراد أسرة الحاكم والنخبة المنتفعة، التي ينتهي مفعولها بمجرد انتهاء مفعول الحاكم نفسه. ويبقى السؤال الأهم، وهو كيف يمكن استعادة الأموال، وإعادة دمجها بأموال الخزينة العامة، التي –إن لم تكن خاوية- فهي بالتأكيد دون قيمتها التي يجب أن تكون عليها. وفي أحسن الأحوال –وهذا عادة ما يكون نادراً- مضطربة. وفي كل الأحوال، إعادة هذه الأموال إلى أصحابها الحقيقيين، إلى أولئك الذين تمنحهم أموالهم المسترجعة بعضاً من أمل، وشيئاً مما كانوا محرمون منه. ألم يفر هذا الحاكم أو ذاك من المحرومين الذين "صنعهم"؟ ومن المظلومين الذين أوجدهم؟ ومن المحتاجين الذين كدسهم؟

في العالم اليوم، تغيرت (قليلاً وليس كثيراً) قواعد اللعبة الناتجة عن حاكم فارٍ وأموال مسلوبة. تغيرت الطريقة التي تتعاطى بها الدول الكبرى أو تلك التي تعج بالحسابات السرية هائلة القيمة، وبالأرصدة المالية المكونة من تسعة أرقام وما فوق! فأرصدة الحكام الفارين أو أولئك المهيئين للفرار في أية لحظة، باتت تنافس بعضها البعض من حيث الحجم، ومن جهة الأساليب التي جُمعت بها، ومن ناحية سرعة وضع اليد عليها. ويبدو واضحاً من خلال التسريبات وبعض الوثائق التي تكشف بين الحين والآخر، أن الحاكم الفار (أو المقبل على الفرار)، يظل "فقيراً" إذا ما فشل في جمع أموال تحسب بالأرقام التسعة. ومع ذلك، فحتى "الفقير" منهم لا يمكنه العثور على "بلاطة"، يستطيع أن يُخفي أمواله تحتها. فكل "البلاطات" المتوافرة هي تلك التي تستوعب فقط بعضة دولارات تخفيها جَدة لأيامها المتعثرة، أو أم تخبئها لحالة طارئة ليست أكثر من مصاريف المدرسة لا عطلة، أو ملابس الشتاء لا معطف فراء، أو دواء لمرض، لا حبوب للتخسيس.

"البلاطات" الوحيدة التي يمكن أن تستوعب هذه الأموال الهائلة، هي الحسابات في مصارف أشباه الدول (مثل جزر الكيمان و ليختنشتاين وأنجويلا والباهاماس وغيرها)، والدول "الكاملة" وفي مقدمتها سويسرا. ولأن الأمور تغيرت، فهذه " البلاطات" لم تعد مُحكمة تماماً، ليس حباً من جانب الدول المستوعبة للحسابات المشينة، للشعوب المسلوبة، بل لتغير المعايير الدولية في التعاطي مع الأنظمة المنهارة بقوة التغيير الشعبي، ولتبدل المناخ السياسي العالمي. وقد قاومت هذه الدول طوال العقود الماضية، كل المحاولات الرامية لجعلها أكثر إنسانية في مسألة الأموال المنهوبة من الشعوب، وحاولت بكل ما لديها من حجج، أن تُكرس وهْمَ أن الأرصدة المشبوهة التي تعم مصارفها، هل عبارة عن ملكيات خاصة وليست عامة، ولا يحق لأحد التصرف بها إلا صاحبها المباشر! وهي تعرف أن "صاحبها" المباشر لا يريد لأمواله أن تبرح خزائنها. ومن ناحية أخلاقية، فهي بهذا السلوك المشين كانت تشاركه بأموال لا يملكها، وبفوائد لا حق له بها، وبممتلكات كانت لشعب يريد أن يعيش.

ولأن المفاهيم والسلوكيات تغيرت، فقد بدا واضحاً إسراع عدد من الدول الكبرى وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا، بتجميد حسابات مالية محتملة للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي. وكانت ألمانيا أكثر وضوحاً في موقفها حين أعلنت على لسان وكيل وزارة خارجيتها فيرنر هوير، بأنها تعمل على ألا يصبح الاتحاد الأوروبي بمنزلة ملاذ آمن لثروات مشبوهة. بل وأكد على أنه "في حال حصل اتفاق بين دول الاتحاد، على إجراءات معينة، مثل تجميد حسابات مصرفية فستدعمها ألمانيا". هذا التوجه يؤسس في الواقع إلى مرحلة جديدة أخرى، في مسألة التعاطي مع أموال الأنظمة المخلوعة، ويدفع قادة الأنظمة المرشحة للانهيار في أي وقت، إلى إعادة حساباتها – ليس المصرفية- بل التخطيطية في التصرف بالأموال. فمع الوقت، فإن هذه الأموال قد تتحول إلى عبء على من جناها بغير وجه حق، ودليل مادي على جرائم سرقة الأموال العامة.

وعلى الرغم من تحسن السلوك السويسري في مسألة الأرصدة المشبوهة لا المسروقة، ورغم حرصها على إظهار تعاونها في هذا المجال، بهدف تلميع صورتها، إلا أن تحركها في هذه القضية بالذات جاء دون المستوى المطلوب، وأقل من أن تعثر على آلية لـ "التلميع". فحسب القانون السويسري، فإنه يتعين على الحكومة التونسية الجديدة أن تجري التحقيق الخاص بها، وبعد ذلك تطلب من سويسرا المساعدة القضائية! وهذا يعني أن القضية ستستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تجمد الأموال ، علماً بأن سويسرا ( ما غيرها) قررت في السابق من جانب واحد تجميد أموال بمصارفها تخص حكاماً مخلوعين، مثل الرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس, والنيجيري ساني أباتشا، والهاييتي فرانسوا دوفالييه، من أجل كسب الوقت حتى يتسنى لممثلي الادعاء في الدول المعنية رفع دعاوى قضائية لاستعادة تلك الأموال. ولكن في الحالة التونسية، لا يبدو أن الوقت مهم بالنسبة للحكومة السويسرية والمشرعين فيها!

وحتى لو أدركت سويسرا أنه من الضروري كسب الوقت في هذه القضية بالتحديد، فإن نظامها القضائي المالي، بطيء في أدائه، إلى درجة الغيظ، كما أن القضايا ليست مضمونة لصالح حكومة الدول المنهوبة. فقد حكمت محكمة الجنايات الاتحادية السويسرية –على سبيل المثال- بعدم إعادة 7 ملايين دولار باسم حاكم زائير السابق (الكونغو الديمقراطية حالياً) موبوتو سيسي سيكو إلى حكومة كينشاسا، وأقرت بأن تبقى هذه الأموال لمن؟ للورثة! وذلك بعد سنوات طويلة من المداولات. لا شك في أن دولة كسويسرا، تريد أن تكشف "البلاطات" عن الأموال المنهوبة التي تخزنها مصارفها، ولكن دون أن يمسها أحد. لا بأس في النظر إليها فقط! ولهذا السبب أشرت في البداية إلى أن قواعد اللعبة تغيرت قليلاً لا كثيراً. فهناك الكثير من المناورات التي يمكن للدول (وأشباه الدول) الحاضنة للأموال المسروقة القيام بها، في ظل غياب قانون دولي واضح المعالم بهذا الصدد. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن منظمة "أكشن" السويسرية غير الحكومية المعنية بمكافحة غسيل الأموال، أوردت في تقرير لها، أن قيمة الثروات الأجنبية التي تديرها المصارف السويسرية تصل إلى 3000 مليار دولار أميركي! وأن ما بين 30 و40 في المائة من هذه الأموال، هي في الواقع أموال أودعها حكام وثروات ناتجة عن غسيل أموال أو عن فساد!

الأوقات والأوضاع تتغير في قضية الأموال المنهوبة من الشعوب، ولكنها تتغير ببطء. إنها تخرج من جيوب أصحابها الحقيقيين بسرعة البرق، وإن عاد منها شيء، فإنه يعود على ظهر سلحفاة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق