الاثنين، 7 فبراير 2011

نمو فاسد وآخر مسروق

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


"من السهل أن نراوغ في مسؤولياتنا، ولكن لا نستطيع أن نراوغ في تبعات مراوغتنا"
جوش ستامب كاتب اقتصادي بريطاني ومدير سابق لبنك إنجلترا المركزي





محمد كركوتــي

من الغرائب المفهومة، أن الدول العربية التي تشهد اضطرابات واحتجاجات، وطاقة هائلة مهيأة للانفجار السلبي في دول أخرى، الذي يدمر ما تبقى من مكونات اقتصاداتها الوطنية، تتمتع بنمو يعتبر كبيراً بالمعايير العالمية. ومن الغرائب أيضاً، أن هذا النمو موجود على الساحة، حتى في عز الانكماش الاقتصادي العالمي. ومنها أيضاً، أن النمو يسود غالبية القطاعات، من السياحة إلى النفط والغاز، ومن الاتصالات إلى الجامعات والمعاهد الخاصة الجيدة والرديئة، التي تنتشر كما تنتشر البضائع الصينية في كل مكان، باستثناء كوكب المريخ. ومنها –أي الغرائب- أن الحكومات تتغنى بالنمو، وسط أنين لا يتوقف، من فرط العوز والفقر والجوع والبطالة، ويصل الأنين إلى أعلى مستوى من "الطرب البائس"، بانضمام "جوقة" الأمية إلى المعزوفة. لم يحدث في تاريخ الدول الراشدة، أو تلك التي تتجه نحو الرشد، هذا التناقض المريع، بين نمو اقتصادي شبه شامل، موجود في الواقع، وبين فقر وجوع وبطالة تشكل المشهد الاجتماعي العام! لم تشهد دولة، حتى وإن كانت تحكمها حكومة هشة سياسياً، هذه المعادلة المضحكة إلى حد بكاء بلا دموع. فالمعادلة المعروفة هي نفسها في كل الأزمنة: النمو الاقتصادي –مهما بلغ حجمه- يساوي تقدماً معيشياً. والعكس صحيح بالتأكيد: الكساد الاقتصادي –مهما كان متواضعاً- يساوي تراجعاً معيشياً.

إن الأمر لا يحتاج إلى فذلكة اقتصادية لشرحه، كما أنه عصيٌ على أي مبرر. وقد أجهدت حكومات نفسها في التبرير على مر السنوات –ولا يزال بعضها يعيش حالات تبرير مستدامة- إلا أنها أخفقت حتى في إقناع نفسها. أرادت هذه الحكومات أن تراوغ في مسؤولياتها تجاه مجتمعاتها، لكنها فشلت. ورغب بعض منها في تحميل المسؤولية إلى أية جهة –إلا نفسها بالطبع- لكنها خسرت. ولو تذكرت ما قاله الكاتب الأميركي ألفريد منتابيرت، لأعفت نفسها من مشقة المراوغة ومن تعب البحث عن مبررات. ماذا قال؟ :"لا أحد استطاع أو سيستطيع الفرار من تبعات اختياراته". فالذين اختاروا إتباع المعادلة المقلوبة الغريبة المريعة، لن يستطيعوا الهروب، لا إلى الأمام ولا إلى الوراء، بل لن يتمكنوا من الخلاص من شرارات تبعات اختياراتهم، حتى ولو جنحوا إلى التنحي والانزواء. وعندما تكون القضية عامة، تكون تبعاتها أوقع وأعنف، فكيف الحال والقضية تمس أمماً، بحياتها ومستقبلها وبخبزها وكرامتها؟

هناك من يقول، إن الحالة المصرية المتفاعلة تختلف عن الحالة التونسية التي تفاعلت، بل وعن الحالات المرشحة للتفاعل. لكن الأمر ليس كذلك. ربما كان هناك اختلاف في طريقة نقل السلطة، أو في النسيج السياسي العام. لكن الحقائق التي دفعت الناس إلى الشارع هي ذاتها، والمسببات في انفصال الاقتصاد بنموه عن هؤلاء الناس هي نفسها. ونحن نعلم، أنه إذا كنا نريد أن نحل مشكلة ما، لابد من الرجوع إلى مسبباتها. الأمراض الاقتصادية المنتشرة في مصر، هي بعينها الأمراض التي تسود اقتصادات الغالبية العظمى من الدول العربية. ففي عز الأزمة الاقتصادية العالمية، وفي أوج ضرباتها، بلغت نسبة النمو في مصر العام 2009 قرابة 7,2 في المائة، وفي العام الماضي انخفضت إلى 4,2 في المائة –وهي نسبة مرتفعة أيضاً- بينما بلغت في تونس ما بين 4 و5 في المائة في الفترة نفسها. المصريون -كما التونسيون- لم يشعروا بهذا النمو. ففرص العمل التي وفرها، لم تحرك مؤشر البطالة نحو الأسفل، بل على العكس زادت نسبة الخريجين المكدسين في المقاهي وعلى زوايا الشوارع، وبعض رواد المقاهي من هؤلاء، انضموا إلى أولئك على النواصي، لأن ذلك لا تكلفة مادية له. والأمر نفسه ينطبق على دول مثل اليمن والجزائر وسوريا والأردن وغيرها.

ولكن أين ذهبت الفرص التي يوفرها النمو؟ يأتي هنا في الدرجة الأولى، الفساد الحكومي والإداري، وأيضاً عدم تكافؤ الفرص. بالإضافة طبعاً، إلى عدم وجود رؤية اقتصادية واقعية، ليس للإصلاحات فحسب، بل للتعاطي المباشر مع الكارثة الاقتصادية-الاجتماعية المستدامة. ولا أزال أتذكر قولاً لوزير الخارجية البريطاني الأسبق دوجلاس هيرد، حول الإصلاحات التي كان المؤيدون لحزبه (المحافظين) يطلبونها من أجل أن يستعيد الحزب الحاكم شعبيته، ويتمكن أكثر في الحكم. ماذا قال؟:"لايمكن القيام بإصلاحات والحزب في السلطة". وبالفعل ما أن خرج المحافظون من الحكم، حتى بدءوا سلسلة من الإصلاحات شبه التاريخية، وعادوا بعدها إلى السلطة، وإن كان ذلك بمعاونة حزب آخر.

ومن الحقائق المريعة أيضاً، أن النمو الناجم عن المشاريع الحكومية الضخمة، في الدول المضطربة سياسياً واقتصادياً، ينتقل بصورة مباشرة إلى جيوب المسؤولين، على شكل رشاوى وسمسرة غير مشروعة ومحسوبيات. وهذا أيضاً ينسحب على المشاريع التي تقوم بها شركات كبرى أجنبية في هذه الدول. ولأن الأمر كذلك، فإن "النمو الفاسد"، يخفض التوظيف في القطاع الخاص عن طريق إجبار شركات الأعمال على الانتقال إلى القطاع غير الرسمي، وعن طريق إقامة الحواجز أمام دخولها، وزيادة نفقات القيام بالأعمال. وتحاول الحكومات غير الراشدة، أن تلتف حول الوضع المعيشي والاجتماعي لشعوبها، عن طريق توفير وظائف بأجور متدنية، على اعتبار أن ذلك يدخل ضمن نطاق النمو الموجود على الساحة، إلا أنها لم تنجح في إقناع، حتى أولئك الذين يحتاجون لثمن كسرة خبز، بأنهم يتشاركون في "نعيم" النمو. وقد ثبت من خلال وثائق المؤسسات الحكومية، أن الحكومات المشار إليها، لا تمنح هذه الوظائف –رغم عدم آدميتها- إلا لمناصري الحزب الحاكم، و"محبي" الحاكم نفسه. فـ "المؤهل" الوحيد المطلوب للفوز بوظيفة متواضعة جداً، هو القدرة على إظهار مشاعر الحب، بأبلغ تعبير ممكن، ويا حبذا لو كان عبر بصمة ممهورة بالدم، مع الصيحة التاريخية الخاصة بالعرب فقط "بالروح بالدم نفديك"! أما مؤهل الوظيفة العليا، هو نفسه، بالإضافة إلى البراعة في تقديم خدمات مشينة ومعيبة.

لن أتحدث هنا، عن معاناة الشركات الكبرى الأجنبية في إطلاق مشاريع في الدول المضطربة سياسياً واقتصادياً، من حجم أموال الرشاوى التي تدفعها، ولن أتحدث أيضاً، عن المشاريع الحكومية -لاسيما تلك المرتبطة بمؤسسات أجنبية- غير المجدية، ولا عن الخصخصة المريبة للشركات الحكومية، التي تنتقل من ملكية عامة إلى ملكية خاصة جداً جداً، ولا عن قهر الرأسمالية الوطنية، ولا عن العمولات التي وصلت في بعض الأحيان، إلى 50 في المائة من قيمة المشروع نفسه، ولا عن مئات الآلاف من الشركات المعفاة من الجباية أو الضرائب. هذه كلها قضايا يمكن أن تُرَكِع أي اقتصاد مهما كانت قوياً وكبيراً ومتماسكاً.

ولكن.. ورغم كل الحراك الاقتصادي المشين، والمشاريع المريبة، هناك نمو كان بإمكان الحكومات وأنظمتها أن توزع خيراته، بصورة قد يكفل لها بقاء أطول – رغم طول وجودها أصلاً- أو على الأقل خروجاً لائقاً من حياة الناس والبلاد.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق