الثلاثاء، 4 يناير 2011

مهاجرون لإنقاذ اقتصاد أوروبا

(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")


" ربما نحن نواجه مشكلة في الهجرة، لكنها ليست مشكلة جدية. المشكلة الحقيقية تكمن في القدرة على الاحتواء"
صموئيل هانتيجتون أستاذ أميركي في العلوم السياسية

 
 

محمد كركوتـي
 
لا أعرف إذا كانت الحكومات الأوروبية المختلفة (وهي منغمسة في معرفة مصير بلدانها المالي)، تسمع النصائح التي تظهر بين الحين والآخر، خصوصاً تلك التي لا تتوافق مع سياساتها، أو لا تتناغم مع "آذانها"، بما في ذلك نصائح مؤسسات دولية وأوروبية كبرى، عادة ما تأتي ضمن نطاق تقارير ودراسات، لا تستحق القراءة فحسب، بل التأمل أيضاً. ولا أعرف – على وجه الدقة – كيف تتعاطى الحكومات المشار إليها، مع هذه الدراسات، إذا ما اهتمت بقراءتها. الذي أعرفه – ويعرفه الجميع – أن هذه الحكومات الهشة سياسياً وشعبياً، بدأت في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، تمارس سياسة رد الفعل، أكثر من سياسة الفعل نفسه، وتقبع منتظرة الفعل يتشكل، لتطلق عليه ردودها!. لقد "استعارت" حكومات الدول المتقدمة ( والأوروبية في أساسها)، سياسات حكومات دول متخلفة أو نامية، على مدى عامين من عمر الأزمة الاقتصادية المديد. وأهم ما يمز هذه السياسات أنها بلا رؤية إستراتيجية متكاملة. فالذي لا يصنع الفعل، لا يمكنه عادة وضع استراتيجيات مُعمرة، ولا سياسات تحاكي المستقبل، والجهود التي تُستهلك في رد الفعل، لا تصنع قراراً، ولا تأتي عادة إلا بأنصاف حلول، أو بحلول آنية، سرعان ما ينتهي مفعولها لتذهب بعيداً عن الساحة.

ووفق هذا السلوك السياسي والاقتصادي، تعيش القارة الأوروبية حالة من التخبط، بين سياسة "الصد" وإستراتيجية الغد. والنتيجة هي أن "الصد"، لا يصب في استحقاقات الغد!. وعندما يكون أحد أهم الأهداف هو استمرار الحكومات في السلطة لأطول فترة ممكنة، فإن النتائج لا تخرج عن نطاق " الترقيع" السياسي والاقتصادي. ولعل هذا ما يفسر غضب دولة كفرنسا أو كألمانيا – مثلاً - من جراء تأخر الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة في الدول الأوروبية الغارقة في الديون والبطالة والتخبط الاقتصادي، ويبرر دعوة هاتان الدولتان، بفرض عقوبات على أي دولة أوروبية لا تفي بوعودها في عملية الإصلاح. والمصيبة أن الدول الأوروبية المنكوبة مالياً، تقودها حكومات أضعف من أن تتخذ قرارات وفق مفهوم إستراتيجي. فهي إن فعلت ذلك، فإنها ستغادر السلطة في اليوم التالي. هذه الحكومات، تعيش في الواقع على الاستقطاب الشعبي، من خلال محاكاة العاطفة الوطنية أو القومية، ومن خلال التخلص – على الأقل في هذه المرحلة – من التسامح الذي كانت تتحلى به بلدانها – بصرف النظر عن مستوياته - طوال السنوات التي سبقت الأزمة الاقتصادية الكبرى.

ماذا فعلت هذه الحكومات؟ وضعت مجموعة من القوانين الطاردة للمهاجرين الشرعيين، ومجموعة أخرى مانعة لوصولهم إليها!. والحقيقة أن هذا التصرف، سيمنح الحكومات المعنية مزيداً من "الأوكسجين الشعبي" للبقاء على "قيد" السلطة، ويوفر الحماية – ولو لبعض الوقت – لهشاشة الأحزاب الحاكمة. فهي تعرف أن "تهييج" المشاعر الوطنية، يمنحها بعض الشعبية التي تحتاجها للاستمرار، وليس للاستدامة. لكن الأمر – من منظور إستراتيجي- ليس سوى كارثة مستقبلية محققة. لأن سياستها حيال المهاجرين الآن، هي ببساطة عبارة عن أزمة مؤجلة لها في السنوات المقبلة. وتكفي الإشارة هنا، إلى دراسة خطيرة أصدرتها منظمة العمل الدولية بالتعاون مع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وخلصت إلى أن "الهجرة وإن كانت تساعد في علاج العجز الذي تعاني منه الدول الأوروبية، في الحصول على الأيادي العاملة والمهارات المتخصصة، إلا أنها لا يمكن أن تحل تماماً مشكلة شيخوخة سكان القارة"!. وحسب هذه الدراسة، فإن أوروبا تحتاج إلى 13 مليون مهاجر سنوياً، لتعويض نسبة المسنين المحالين إلى التقاعد، الذين تفوق أعمارهم 65 عاماً، وتثبيت نسبة القوى العاملة في المرحلة العمرية بين 15 و64 عاماً حتى عام 2050. بل يمضي واضعو الدراسة أبعد من ذلك، حين يطالبون "بتنظيم الهجرة بشكل فعال من خلال شراكات وتعاون، بين الدول المصدرة للقوى العاملة والكفاءات البشرية، وبين دول المقصد، اعتماداً على أطر من المعايير والسياسات الدولية".

وأحسب أنه من الضروري الإشارة هنا، إلى أن ما يفيد أوروبا من المهاجرين الضروريين لها، يضر البلدان المصدرة لهم. فهجرة العقول والكفاءات البشرية الماهرة والمتميزة، سيؤدي حتماً إلى نقص في الموارد البشرية، الأمر الذي يعوق التقدم الاقتصادي في البلدان الأقل نمواً. وتستحق هذه القضية وقفة مطولة، لأنها تضع الدول الكبرى أيضاً، أما معضلة أخلاقية وتنموية في الدول النامية، خصوصاً فيما يرتبط بالعقول المبدعة المهاجرة، أو التي تخطط للهجرة باتجاه الغرب، وتحديداً نحو أوروبا. بل أن هناك مشاكل كبيرة أيضاً بهذا الخصوص تواجهها دول أوروبية "جانبية"، مثل ألبانيا وبلغاريا وأوكرانيا. فهذه الأخيرة – مثلاً – فقدت نحو 30 في المائة من علمائها، بمغادرتهم البلاد في غضون العشر سنوات الماضية. مرة أخرى، إن ما يفيد أوروبا بدولها الكبرى عن طريق العمالة الوافدة الضرورية، لا يفيد على المدى البعيد بالتأكيد الدول المصدرة لهذه العمالة.

ومع ذلك، فقد فضلت الدول الأوروبية الكبرى، وفي مقدمتها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، سن قوانين للتقليل من الهجرة العمالية الشرعية. دون أن تأخذ بالاعتبار استحقاقات السنوات المقبلة. فعلى سبيل المثال، أعلنت وزارة العمل والمعاشات البريطانية، أن واحداً من كل خمسة أشخاص في المملكة المتحدة، سيعيش إلى سن المائة على الأقل. وطبقاً لمسح أجرته الوزارة نفسها، فإن 10 ملايين شخص، أو ما يساوي 17 في المائة من إجمالي عدد السكان، سيصبح "مئوياً" في وقت ما مستقبلاً. وحسب تقديرات الوزارة، فإن العام 2066 سيشهد وجود 507 آلاف شخص بين المائة و109 أعوام، إضافة إلى 7 آلاف و700 آخرين فوق سن 110 !. والأمر ليس مختلفاً كثيراً في بلدان كفرنسا وألمانيا وحتى إيطاليا. ومع ذلك وضعت الحكومات القوانين المناوئة للهجرة الشرعية التي ستساهم على المدى البعيد في تخفيف ضغط "شيخوخة" أوروبا على اقتصادها. ولمزيد من الأرقام الإحصائية المخيفة، فإن عدد البالغين من العمر 60 عاماً سيتضاعف بمعدل مليوني شخص كل عام في دول الاتحاد الأوروبي، خلال الـ 25 سنة المقبلة!، وإن أعمار الطبقة العاملة في أوروبا سيتباطأ بشدة، وسيتوقف نمو هذه الطبقة بعد ست سنوات فقط، كما ستتناقص الطبقة العاملة بعد السنوات الست المقبلة، بمليون إلى 1.5 مليون كل عام، وستتزايد شريحة الأعمار بين 65 و79 بمعدل الضعف بحلول عام 2060 !.

ولأن الأمر كذلك، فقد كانت إحدى المحاكم البريطانية، أكثر واقعية وحكمة من حكومتها، عندما قضت ببطلان سقف مؤقت لأعداد العمال المهاجرين المهرة من خارج الاتحاد الأوروبي، لأن الحكومة لم تتشاور مع البرلمان، ولأن القاضي وجد أن القضية تحتاج إلى إعادة النظر بصورة أكثر إستراتيجية، لا آنية أو ارتجالية. ولكن إذا ما نجحت الحكومات الأوروبية – ومن ضمنها الحكومة البريطانية – في تمرير القوانين الجديدة، فإنها بلا شك ستضع بلدانها أمام مصيبة مؤجلة، لن تكون المدة لانفجارها طويلة. كما أنها ستمنح الدول المصدرة للعمالة والعقول فرصة وطنية ذهبية، لكي تعيد النظر في سياساتها الطاردة لمواردها البشرية. وقتها لن تستجدي الدول الأوروبية العمالة، بل ستبحث عن مشرفين يرعون مئات الآلاف من العجزة الذين سيتجاوز عمر الواحد منهم، قرناً من الزمن!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق