الاثنين، 28 سبتمبر 2009

قمة القرار غير الحصري

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )






"غزو النفس.. هو أعظم الانتصارات"
الفيلسوف اليوناني أفلاطون

محمد كركوتــي

لنبتعد قليلا عن الخلافات التي دبت (وكانت متوقعة) في قمة مجموعة العشرين في الولايات المتحدة، حول رواتب ومكافآت وحوافز مديري المصارف والمؤسسات المالية، وحول بعض القضايا الأخرى، بما في ذلك حجم النفوذ (عدد الأصوات) لبعض الدول الناشئة في المؤسسات الدولية وفي مقدمتها بالطبع صندوق النقد الدولي. ولنبتعد بعض الشيء عن مناقشة كيفية تطبيق قواعد جديدة مع نهاية عام 2012 لتحسين وضع وحجم رأسمال المصارف. فلا أحد ينتظر من القمم – أي قمم – أن تخرج برؤى متطابقة 100 في المائة، أو أن تتخذ القرارات – لاسيما المصيرية منها – بالتزكية. فهذا عادة أسلوب ''البرلمانات'' التي لا تحمل من القيم البرلمانية- التشريعية، سوى اسمها. ولندع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني جوردون براون وإلى جانبهما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في خضم تناطحهم حول بعض القضايا (رواتب مديري المصارف على رأسها). فهذا التناطح أصبح سمة من سمات العلاقات بين أكبر وأقوى دول الاتحاد الأوروبي قاطبة، في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. ومن المفارقات أن هذا التناطح يجري، في ظل وجود إدارة أمريكية ترغب في التعاون، وتفهم ما جرى ويجري على الساحة العالمية!. ولنترك قضية الاضطرابات والمظاهرات والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي التي صاحبت القمة في بيتسبرج حيث عقدت. فهذه المظاهرات، هي أيضا سمة من سمات هذا النوع من القمم، ولذلك فالخبر لا يكمن في انطلاقها، بل في عدم اندلاعها!.
في المحن الشاملة، لا مكان للنخبة، ولا مساحة لمتسيد، ولا فسحة لكبير. هناك ساحة للجميع من أجل مواجهة مصائب هذه المحن، وهمومها وإشكالياتها وحممها المتقاذفة في كل الأرجاء. ساحة يقف فيها الكبير إلى جانب الصغير (وأحيانا الصغير هو من يقف إلى جانب الكبير)، خصوصا عندما يكون الكل على مركب واحد، فقد قبطانه الخبير - العتيق الاتجاه، بعدما خسر البوصلة!. في هذه الساحة، يجري ''فرز'' الحكمة عند الجميع، ليس وفق تجاربهم، بل على قدر استيعابهم لهذه التجارب. وعلى الرغم من هول الأزمة الاقتصادية العالمية، إلا أنها – للمفارقة – ليست عصية على الفهم. فمقدماتها.. دلت عليها، ومصائبها ملكت أدوات حلها، وعنفها احتوى على بعض من آليات ''تلطيفها''، بعد ما فضحت ''الإلهام'' الاقتصادي لدى الأفراد الذين كانوا يدعون المناعة من الأخطاء، والدول التي كانت ''تتبختر'' بأن قوة لم توجد بعد، يمكن أن تهزها!.
اللافت في قمة مجموعة العشرين الثالثة بعد الأزمة، أنها حققت شيئا تاريخيا، كانت تحتاج إليه هي أولا كمجموعة دول، ويحتاج إليه العالم أجمع في آن معا. لقد قامت بأولى خطواتها الثابتة نحو ''المأسسة'' – إن جاز التعبير- بمعنى أن القمة دعمت خطوات تكريس المجموعة، ككيان دولي هو الأكبر والأقوى على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، مهمته الأساسية مراقبة أداء الاقتصاد العالمي، والعمل على تنفيذ الاتفاقات والاتفاقيات، التي لم تعد حكرا على ''نوادي النخبة''. فالقرار الاقتصادي العالمي، لم يعد في أيدي الأمريكيين أو البريطانيين أو الفرنسيين أو الألمان، أو غيرهم من الأمم التقليدية التي ملكت زمام المبادرة والقرار الدولي، قبل وبعد الحرب الثانية. هذه القمة أوجدت آلية يمكن وصفها بـ ''آلية صنع القرار غير الحصري''. صحيح أن البعض بدأ ينظر إليها كـ ''كيان نخبوي''، لكن الصحيح أيضا، أنها تضم دولا أبعدها النخبويون عن ''ماكينة'' صنع القرار العالمي، لعقود طويلة من الزمن. واللافت أيضا.. أن النخبويين السابقين اقتنعوا بحقيقة أنهم لا يملكون الحق المطلق في المعرفة والحل، وفي المصلحة العالمية وأدواتها، وفي البناء والنمو. وهذا أيضا من الجوانب الأكثر ترشيحا لدخول التاريخ، مقارنة ببقية الجوانب الأخرى في قمة بيتسبرج. وبسبب ذلك، تراجعت الطروحات – وستتراجع أكثر في المستقبل – الخاصة بالتوصل إلى صيغة نهائية لمجموعة دولية، تتسلم زمام الأمور والمبادرة، ليس فقط خلال الأزمة، بل أيضا بعدها، بما في ذلك الطرح الفرنسي المؤيد الصلب لصيغة '' الـ 14''، المكونة من مجموعة الثماني، إضافة إلى كل من جنوب إفريقيا والصين والبرازيل والهند والمكسيك ومصر.
والواقع أن مجموعة العشرين التي تسيطر على ما بين 85 و90 في المائة من الناتج العالمي، تمتلك حق صناعة القرار الاقتصادي الدولي، لا الإشراف على تنفيذه فقط، وإذا استطاعت المجموعة في القمة الأخيرة، أن تُدعم خطوات ''مأسستها''، عليها أيضا أن تعمل من أجل تكريس دورها كمشرع دولي. فما يريده الفرنسيون – على سبيل المثال – أن تقوم المجموعة بمهام الإشراف، في وقت تمتلك فيه أدوات تشريعية وتنفيذية وروحا من التعاون لم تكن موجودة أصلا على الساحة الدولية حتى وقت قريب، وقبل هذا وذاك.. ''أزمة'' عززت لديها مكامن الخبرة أشواطا طويلة في زمن قصير. هذه الخبرة تمكنها من ''صناعة المستقبل''.. من معطيات المستقبل، لا من مخلفات الماضي. فقد عانى العالم لعقود طويلة من الزمن، من صناعة مستقبله وفق ماضيه، ماذا حدث بعد ذلك؟ مجموعة من الأزمات، شكلت الأزمة الاقتصادية الراهنة أبرز ''نجماتها''.
إن عزل المجموعات الأخرى عن عملية صنع القرار العالمي يجب ألا يكون هدفا. بل على العكس تماما ينبغي إشراكها في هذه ''الصناعة''، لكن المشكلة أن '' الطبخة'' معرضة للاحتراق من فرط تعدد الطباخين – كما يقولون -، ومجموعة العشرين تمثل الصيغة الأمثل المطروحة على المسرح الاقتصادي. فهي خليط بين دول كبرى وأخرى ناشئة. بين دول فهمت أن التفرد (وأحيانا العنجهية)، لا يحقق في عالم متداخل.. المصلحة الملحة المرجوة حتى لها، وبين دول انتظرت طويلا من أجل أن تلعب دورها وفق إطار منطقي، إن لم نقل ''وفق حق شرعي''. كيف يمكن لغير مجموعة العشرين – على سبيل المثال – في هذا الوقت بالذات، أن تقرر موعدا لإلغاء الحوافز التي وفرتها الحكومات المختلفة للإنعاش الاقتصادي؟. وكيف يمكن لغير هذه المجموعة، أن تضع القوانين النهائية لإصلاح القطاع المالي العالمي؟. وكيف يمكن لغيرها أيضا.. أن يحدد الصيغ الكفيلة بمنع حدوث أزمة اقتصادية عالمية مشابهة لهذه التي لا نزال نعيش في ظلها؟. فالكل يعرف أن الطريق لا يزال طويلا أمام العالم للخروج من أزمته، وقد اعترف بذلك وزير الخزانة الأمريكي نفسه تيموثي جاذنر، حين قال: ''إن الركود لا يزال حادا، والطريق ما زال طويلا''.
لقد صنعت الأزمة الاقتصادية، مستجدات لم تكن في الحسبان، فرضت على العالم أجمع ضرورة أن يحسب لكل شيء مهما كان صغيرا. فرضت عليه أن يسعى لوجود مُشرع متحرر من الماضي ومن العنجهية والفوقية ومن المصالح الذاتية. مُشرع يتكون من ''متقدم وناشئ ونام''، ومجموعة العشرين قامت أساسا على هذه المعادلة. الأزمة وسعت أيضا مدارك البشر، وإن ضيقت عليهم معيشتهم، وكرست حقيقة أن المشاركة في الهموم، هي أقصر الطرق لتخفيف حدتها.


هناك تعليق واحد:

  1. منذ قليل تكلم معي احد اصدقائي من الولايات المتحدة ... نكلم عن اجبار السويسريون لاعطاء المعلومات السرية عن مواطنين امريكيين .. مما حدا للعديد منهم إلى الانتحار .. انها زيول الازمة

    ردحذف