الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

فقر الأثرياء!



( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )

«إنه الآن يصعد من النعمة إلى الفقر»
الأديب الأمريكي مارك توين

محمد كركوتــي
الاقتصاديون الواقعيون، أو لنقل: «الاقتصاديون غير الملهمين»، يبدون حرصا واضحا على عدم التفاؤل بالإشارات الإيجابية حول مستقبل الاقتصاد العالمي بعد عام تقريبا على اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية. فهم - على عكس «الملهمين»- يعرفون أن أحد أسباب الأزمة الكبرى، كان الإفراط في التفاؤل، والامتناع عن المساس بالسوق، التي حولوها إلى «مقدسة».. ولأنها كذلك فهي لا تخطئ، وإن فعلت ذلك فهي قادرة على تصحيح أخطائها على الفور، وعلى الجميع أن يقف بعيدا دون تدخل!. وفي الأشهر التي حفلت بمقدمات الأزمة العالمية، كان «الملهمون» يسخرون من أولئك الاقتصاديين الذين كانوا يطلبون من صناع القرار الاقتصادي، التخفيف من تفاؤلهم، والنظر إلى الأمور، بعين مختلفة عن تلك «العمياء»، وأن يتابعوا الإشارات السلبية التي كانت تظهر على مدار الساعة. لكن صناع القرار، التزموا تطمينات «الملهمين»، ولم يلتفتوا إلى آراء أولئك المتشائمين، الذين كانوا يريدون « تعكير» حركة الأداء الاقتصادي!.
الأزمة اندلعت، ولم تمنح لحظة واحدة لـ «الملهمين» حتى لاستيعاب الضربة الأولى. فلا السوق صححت نفسها، ولا التفاؤل جلب قوارب النجاة. وقد قدم رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق (البنك المركزي) آلان جرينسبان، أبلغ توصيف لحالة أصحاب «دعوا السوق تعمل» – وهو منهم – عندما قال: «إن هذه الأزمة غير مسبوقة، ولا أصدق ما يجري»!. فإذا كان هذا الرجل الذي جلس على كرسي أهم صانع للقرارات الاقتصادية الأمريكية – ومتعلقاتها الدولية – لمدة تزيد على 18 عاما، لم يستطع فهم ما يجري، نستطيع أن نتخيل مستوى استيعاب «الملهمين» لما جرى ويجري.
هذا المفارقة في «المصيبة» الاقتصادية العالمية، جلبت معها مفارقات لا حدود لها. نحن لا نتحدث هنا عن المصائب التي أحدثتها الأزمة في الدول النامية، من جراء تراجع مستوى مساعدات الدول المانحة لها، ولا عن توقف العديد من المشاريع التنموية والإعمارية والصحية، ولا عن تراجع الإنفاق على التعليم وبرامج محو الأمية، ولا عن ضياع الأموال «الغلابة وغير الغلابة» على أيدي المحتالين الذين ظهروا في كل الأمكنة، ولا عن ارتفاع عدد الجياع 100 مليون ليصل العدد الإجمالي العالمي إلى 1.02 مليار نسمة، ولا عن عدد العاطلين الذين سيضاف إليهم مع نهاية العام الحالي أكثر من 59 مليون عاطل.. لا نتحدث عن هذه المصائب، بل عن مشكلة انفجرت في العالم الغربي، من جراء الأزمة العالمية. مشكلة.. لم تكن مطروحة للنقاش حتى في عز الأزمات. مشكلة.. كانت حتى عام مضى تخص الدول الفقيرة والنامية بل وحتى الدول التي اصطلح على تسميتها بالناشئة. هذه المشكلة تتلخص في ارتفاع عدد الفقراء، أين؟ في الدول الأوروبية الغنية!. فقد انضمت هذه الدول إلى الولايات المتحدة في هذا النطاق. فعدد الأشخاص الذين يعيشون عن طريق « كوبونات الإعاشة» في الولايات المتحدة، وصل حدا يقترب من عددهم أيام الحروب الكبرى ( 2.5 مليون أمريكي غاصوا خلال العام الجاري دون خط الفقر)، وكذلك الأمر في بعض الدول الغربية الغنية الأخرى، التي ارتفع فيها عدد المتاجر الخيرية وشبه الخيرية، التي تبيع المنتجات الضرورية بأسعار رمزية، لتمكين الأسر من الاستمرار في حياتهم، بأدنى حد من الكرامة.
فقد وجدت بعض الدول ومن بينها النمسا – رابع أغنى دولة في الاتحاد الأوروبي – أن الأزمة التي نالت من أغنيائها بصورة بشعة، تمكنت أيضا بصورة أبشع من غير الأغنياء فيها. فالقضية لم تعد تحسب بعدد العاطلين عن العمل ( في الاتحاد الأوروبي وصلت البطالة إلى 9.4 في المائة)، ولم تعد محصورة بمعدلات التضخم والإخفاق في تسديد القروض السكنية والمعيشية الأخرى، بل أيضا بلقمة العيش اليومية. وفي الوقت الذي بلغ فيه عدد المتاجر التي أغلقت في بريطانيا منذ بداية العام الجاري أكثر من 12 ألف متجر بسبب الأزمة، ارتفع فيها في المقابل عدد المتاجر الخيرية التي تبيع بضائعها بأسعار رمزية جدا، وفي بعض الأحيان مجانا، حسب حالة المشتري المعيشية. وفي فرنسا تجري الأمور في هذا الاتجاه. فعلى الرغم من أن مثل هذه الخطوات تصب ضمن النطاق الاجتماعي والإنساني، إلا أنها تترك أثرا بالغا في هالة وهامة هذه الدولة أو تلك. فعل يعقل – على سبيل المثال – أن بلدا كالنمسا يحتل المرتبة الرابعة في قائمة أغنى دول الاتحاد الأوروبي، أن يشهد انطلاق مجموعة من المتاجر الاجتماعية – الخيرية، من أجل «سد رمق الفقراء»؟!. نعم إن هذا يحدث وسيحدث بصورة أكثر درامية – ربما - في الأشهر القليلة المقبلة، في عدد آخر من البلدان الغنية. ويكفي الإشارة هنا، إلى أنه يعيش في العاصمة النمساوية فيينا أكثر من 200 ألف نسمة تحت خط الفقر، بينما لا يتعدى عدد سكانها أكثر من 1.6 مليون نسمة.
ومن ضمن المشاكل التي تواجهها الحركة الخيرية في الاتحاد الأوروبي ككل، أن جمعياتها تواجه أيضا شحا في التمويل والتبرعات، لأن الأزمة ابتلعت أموال جهات كبرى كانت تمثل مصدرا ماليا كبيرا لهذه الجمعيات، فضلا عن تراجع قدرة الأفراد في التبرع. لكن هذا لم يعرقل تحرك الكثير من المؤسسات الخيرية، لتأسيس « المتاجر الاجتماعية»، التي تشبه إلى حد بعيد «الجمعيات التعاونية» التي كانت منتشرة في دول الكتلة الأوروبية الشيوعية السابقة. صحيح أن «المتاجر الاجتماعية – الخيرية» لن تحل مكان المتاجر الأخرى العادية أو الفاخرة، لكن الصحيح أيضا، أنها دخلت السوق، التي كان «الاقتصاديون الملهمون» يعتقدون – بل ويؤمنون – بأنها لا تخطئ ولا تجلب إلا الازدهار والنمو!. لكن الذي جلبته – السوق وأزمتها العالمية – «استعارة» اجتماعية – غير مرغوبة – من كتلة بلدان سابقة، كان العالم ينظر إليها، على أنها تعيش في كوكب آخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق