الثلاثاء، 1 سبتمبر 2009

مهاجرون في ظل "قومية إقليمية" مهزوزة!




(هذاالمقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

"علينا أن نتذكر دائما نحن جميعا.. أنت وأنا شخصيا، ننحدر من مهاجرين وثوار"
الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت

محمد كركوتــي

في كتابي الذي صدر في يونيو/ حزيران الماضي تحت عنوان " في الأزمة"، كتبت في أحد فصوله، عن بزوغ ما يمكن تسميته بـ " القومية الاقتصادية"، من جراء الأزمة الاقتصادية العالمية، التي لم تغير آليات الحراك الاقتصادي فحسب، بل أطلقت العنان للمشاعر القومية (والمحلية) بصورتها السلبية، وأعادت التطرف إلى الانتماءات الوطنية في دول، كانت – قبل الأزمة- تفتخر بأن وطنيتها الحقيقية " الجميلة" ، تكمن في عمق الانتماء الإقليمي لها، وكانت تقر أن الانغماس في "وطنية عصبية"، لا يسبب أضرارا للكيان الإقليمي، بل يصيب هذا البلد المتعصب بأضرار فادحة، في مقدمتها، عدم الاستفادة من السوق الكبيرة المفتوحة أمامه، بالصورة التي تستفيد منها البلدان الأخرى، ذات " القومية الإقليمية" – إن جاز الوصف - . في منظومة ضخمة كالاتحاد الأوروبي تنعم بأكبر اقتصاد في العالم ( الناتج الوطني السنوي لدول الاتحاد يبلغ 18,394,115 مليار دولار أميركي، من أصل الناتج الإجمالي العالمي البالغ 60,689,812 مليار دولار) بات الإيطالي– بعد الأزمة – الذي يعمل في شركة فرنسية تزاول نشاطاتها في بريطانيا مقتنصا لفرصة عمل بريطاني. والبرتغالي الموظف في شركة بريطانية في أسبانيا، يبعد أسباني عن وظيفة. والمزارع الروماني الذي يحرث بستانا في اليونان، يضع الفلاح اليوناني في قائمة ملتقي إعانات البطالة. وحتى السمسار البريطاني في بورصة لندن، يصعب عليه تخفيف نظرات الكراهية لكل السماسرة الفرنسيين والبلجيكيين وزملائهم من غير البريطانيين العاملين في هذه البورصة. فهؤلاء قد يحصلون على وظيفته، في خضم التزاحم اليومي في ميدان السوق. فما كان مقبولا قبل الأزمة، أصبح مكروها بعدها، والمشاعر تجاه الجار – وحتى الشريك – لن تكون بمعزل عن ذلك.
وإذا كانت هذه التحولات مشينة في منظومة تنص اتفاقياتها على معاملة البريطاني في فرنسا.. كفرنسي، واليوناني في النمسا.. كنمساوي، واللكسمبورجي في إيطاليا.. كإيطالي، والفنلندي في ألماني.. كألماني، فإنها ليست بهذا الزخم المشين عندما ترتبط بمهاجر قادم من آسيا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، أو حتى من بعض دول الكتلة الشرقية الأوروبية، التي لم تنغمس دستوريا بعد في هيكلية الاتحاد الأوروبي. صحيح أن هناك اتفاقيات دولية تنظم وضعية المهاجرين – بشكل عام – وصحيح أن الدول الراشدة - والأوروبية منها – لن تتجاوز هذه الاتفاقيات، إلا أن الصحيح أيضا، أن الاحتياجات الاقتصادية والبشرية في الدول الحاضنة لأكبر عدد من المهاجرين، تغيرت، بفعل الأزمة العالمية، وبدأت تسن القوانين التي تحد من الهجرة، أو على الأقل التشريعات التي "تغربل" المهاجرين. فالذي تحتاجه الآن، مهاجرون مؤهلون، لا مهاجرين متطفلين يسعون فقط إلى حياة أفضل، من تلك التي يعيشونها في بلدانهم الأصلية. ففي بلد كبريطانيا - معروف بالتسامح والتساهل مع المهاجرين- بدأ صناع القرار فيه، بوضع مخططات جديدة لتشديد شروط الهجرة والجنسية. والشروط التي كانت مطلوبة بالأمس، لم تعد صالحة لليوم وللغد. وبريطانيا التي كانت مصدرة للقوانين والتشريعات على مستوى العالم، قررت استعارة بعض تشريعات الهجرة الأسترالية. والقوانين الجديدة تضع العاملين الأجانب – وحتى الطلاب! - ضمن تصنيفات تتعلق بمؤهلاتهم وأعمارهم، ومدى حاجة البلاد إلى مهاراتهم في إطار السعي لضبط عملية تدفق الأجانب الباحثين عن عمل. وحسب المشرعين البريطانيين، فعندما تشهد البلاد أزمنة اقتصادية عصيبة، ينبغي إعادة النظر في كل شيء، وفي أي شيء، لكي تتمكن الحكومة من الاستجابة بمرونة وفاعلية لتغير الاحتياجات الاقتصادية للبلاد.
في بريطانيا يصل عدد المهاجرين إلى 5 ملايين مهاجر، أي ما يوازي 7,9 في المئة من مجموع عدد السكان البالغ 59 مليون نسمة. ويصل إلى البلاد يوميا أكثر من 1500 مهاجر من مناطق، تعاني غالبيتها من الفقر والتخلف والفساد والحروب والصراعات القبلية. والحق أن بريطانيا وضعت منذ سنوات سياسة متشددة – لا قوانين جديدة واضحة - بشأن الهجرة. فقد اتبعت "سياسة العراقيل" أمام الراغبين بدخول البلاد والعيش فيها، باستثناء من يتمتعون بمهارات عالية من العمالة الأجنبية. والواقع أن السياسة المتشددة هذه، لم تنطلق لأسباب اقتصادية، بل لأسباب أمنية، مع اشتداد خطر الإرهاب البغيض عليها. فالإرهابيون شوهوا الوجه البريطاني المتسامح حيال المهاجرين واللاجئين بشكل عام، تماما كما شوهت الأزمة الاقتصادية العالمية، المشهد الاقتصادي الذي كان سائدا قبلها، وبعثرت مشاعر الإنسان، كما عبثت بإنسانية المكان. وبعيدا عن الإرهاب الذي يجب أن يحارب بكل الوسائل، بصرف النظر عن مبرراته، فإن قوانين أو نظام الهجرة البريطاني الجديد، يتعرض لانتقادات حادة من جانب لجنة من المشرعين. فهذا النظام يركز على المؤهل العلمي فقط، لاستقطاب هذا المهاجر أو ذاك، بينما يعتقد المشرعون المعترضون أن هذا التركيز يأتي على حساب عوامل أخرى، في مقدمتها القدرة على العمل أو الخبرة المكتسبة، إلى جانب طبعا انتقادات أرباب العمل، الذين اعتبروا أن نظام الهجرة الجديد والتعديلات المقترحة عليه، يحول دون تمكنهم من جلب وتوظيف العمالة الماهرة الضرورية، وغير المتوفرة في الساحة المحلية.
من المؤكد أن الصراع التشريعي سيتواصل في بريطانيا، فهذا البلد لا يصدر عادة قوانين وتشريعات ارتجالية سرعان مع يضطر واضعوها إلى إلغائها وإطلاق المبررات المضحكة، خصوصا في البلدان التي لا تعاقب المخطئين – وحتى الفاشلين – بل تمنحهم الترقيات!. والحقيقة أنه حتى قبل إقرار التشريعات الجديدة الخاصة بالهجرة والعمل والتحصيل العلمي، بدأت أعداد من المهاجرين مغادرة بريطانيا طوعا. وطبقا لـ " معهد أبحاث السياسة العامة" البريطاني فإن عدد هؤلاء سيصل إلى مليون مهاجر في غضون السنوات القليلة المقبلة بسبب الأزمة الاقتصادية. وحسب دراسة للمعهد نفسه، سيغادر البلاد كل عام 200 ألف مهاجر على الأقل في غضون الخمس سنوات المقبلة. وإذا ما اعتبرنا أن أبناء دول الكتلة الشرقية الأوروبية السابقة من المهاجرين ( عمليا هم من مواطني الاتحاد الأوروبي) فقد بلغ عددهم في السنوات الماضية في بريطانيا أكثر من 1,1 مليون نسمة، لكنه في أعقاب الأزمة، غادر منهم ما يقرب من 550 مليون نسمة. وهذا يعني أن هذا البلد الذي يتميز بقدرات جاذبة للمهاجرين الوافدين – مقارنة بالبلدان الأوروبية الأخرى – بدأ بالتحول إلى بلد "هجرة معاكسة".
يقول رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل: " الأمم القوية لا تكون عادلة، ولكن عندما تريد أن تصبح عادلة، تكون قد فقدت قوتها"!. ولا شك أن قوة بريطانيا – كغيرها من الدول الكبرى المنكوبة من الأزمة الاقتصادية – لم تعد كما كانت، والمؤشرات كلها تدل على أنها لن تعود إلى وضعيتها ما بين فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والأزمة الاقتصادية الراهنة. بل أن الكبار فقدوا بعضا من "عدة" صنع القرار الاقتصادي العالمي. لماذا؟. لأن الأوقات تتغير.. وتتغير معها المتطلبات والآليات، وحتى المبادئ والمشاعر. وإذا كانت بريطانيا المتسامحة، تمضي في هذا الطريق، يمكننا أن نتصور أشكال التعاطي مع المهاجرين والعمالة الوافدة في بقية بلدان العالم. والدول التي "تستعيد" عمالها ومواطنيها في هذا الوقت بالذات، تحتاج إلى خطط إنقاذ جديدة، ليس فقط من أجل احتواء العاطلين – العائدين، بل من أجل توفير الحصانة للمجتمع بأكمله. فالغالبية العظمى من هؤلاء لا يعودون كمستثمرين، ولا كرجال أو سيدات أعمال.. يعودون باحثين عن فرص عمل، ينتظرها في " الطابور" الملايين من أولئك الذين لم يستطيعوا مغادرة بلادهم.

هناك تعليقان (2):

  1. رائع .. ربما لاتعطي المقال حقه في درجة الاستحسان .. حقا أصبت كعادتك .. عين الحقيقة.

    ردحذف