الأحد، 4 أكتوبر 2009

مصائب فاخرة!!

(هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية")








" رأيت بعض الموتى من الجوع، ورأيت موتى بمئات الآلاف من التخمة "
      الفيلسوف والسياسي الأميركي بنجامين فرانكلين


محمد كركوتــي

في الاتحاد الأوروبي – وليس أفريقيا –هناك 30 مليون شخص يعانون من سوء التغذية!. أي ما يوازي عشرة في المئة تقريبا من المجموع الكلي للسكان. القضية لا تنتهي هنا، لأن الخزائن العامة في دول الاتحاد تخسر أكثر من 170 مليار يورو سنويا في مواجهة هذه الأزمة المتفاقمة. بينما يحلم واضعو السياسات الاقتصادية بضم هذه المبالغ الهائلة، إلى الأموال التي رصدتها الحكومات الأوروبية للتحفيز الاقتصادي، وانتشال المؤسسات التي وقعت تحت ضربات الأزمة الاقتصادية العالمية. وعلى عكس الأفارقة المصابين بسوء التغذية – بل بانعدامها– لا تظهر الأقفاص الصدرية للعيان عند "زملائهم" الأوروبيين، ولا تظهر مشاهد القحط في خلفية الصورة. فلا يزال اللحم فوق العظم، وسيظل بموقعه الطبيعي. فأوروبا ليست "متخصصة" في هذا النوع من الأشكال البشرية. والبطن المنتفخ المستند على سيقان كأعواد الكبريت، "يُنتج" في الدول الفقيرة لا الغنية.

للشاعر والمغني الأميركي بوب ديلان الذي يلقب بالأسطورة، أغنية يقول فيها: "التقيت برجل جريح من الحب، والتقيت بآخر جريح من الكراهية". وإذا ما استبدلت هنا الحب بالطعام، فقد رأيت شخصا يعاني من سوء التغذية لفقدان الشهية، ورأيت آخر يعاني من فقدان الطعام!. القضية أيضا لا تتوقف عند هذا الحد. فـ " المصائب الفاخرة" ظهرت في بيانات رسمية أوروبية، دعمها خبراء تغذية أوروبيون اجتمعوا مؤخرا في العاصمة النمساوية فيينا، جاء فيها : أن ما بين 5 إلى 15% من مجموع سكان أوروبا، و40% من المرضى الذين يعالجون في المستشفيات، و60% من نزلاء دور العجزة، يعانون من سوء التغذية أو معرضون لذلك. والمثير أن الكلفة الناتجة عن سوء التغذية، توازي ثلاث أضعاف تكاليف مواجهة الأزمات الصحية الناجمة عن البدانة. ولا أعرف إن كان "ملهما" من "الملهمين" الاقتصاديين الأوروبيين، سيظهر ويدعو إلى ضرورة تشجيع البدانة، وتسمين الشعوب الأوروبية، للحد من الخسائر!.

لقد أظهرت هذه القضية، أن فقدان الشهية في الدول الأوروبية مكلف ماليا، وفقدان الطعام في الدول الفقيرة مكلف إنسانيا. وإذا كانت الحكومات الأوروبية تستطيع أن تخصص مبالغ هائلة لمواجهة مصائب فقدان الشهية، فإن الحكومات في بعض الدول الفقيرة، عاجزة عن توفير حتى المياه الصالحة للشرب الآدمي. بل أن هناك دولا تنقصها المياه الصالحة لشرب الحيوانات، ويستطيع أي متابع لأحوال الدول القاصرة أن يشاهد أيضا الأقفاص الصدرية للحيوانات فيها. فاللحم ليس تحت العظم، لأن لا وجود له أصلا!.

لا يمكن التعاطي مع قضية كهذه، دون إسقاطها على المشهد الإنساني العالمي. فالعالم يعج الآن بـ 1,02 مليار جائع – لا فقير – وثلث سكان الكرة الأرضية يعيش على دولار أميركي واحد في اليوم، والثلث الآخر يعيش على دولارين اثنين في اليوم الواحد. وتعاني حاليا المؤسسات والمنظمات الإنسانية من شح في التمويل، بينما تعاني الدول النامية المتلقية للمساعدات شحا في هذا المجال. وإذا كان الأوروبيون يخشون على حياة عشرة في المئة من مواطنيهم من جراء "مصائبهم الفاخرة"، فإن العالم مطالب الآن أكثر من أي وقت مضى، بإظهار خشيته من مصائب "الموت والهلاك" التي يواجهها 30 في المئة من مجموع الجنس البشري.

من حق أي دولة أو إقليم أو تجمع، العمل من أجل رفاهية أبنائه. هذه قاعدة إنسانية وحقوقية ثابتة، لكن من حق العالم أيضا أن يحظى باهتمام الكبار، ليس فقط عن طريق الحد من الأسلحة النووية والبيولوجية، ولا مكافحة الإرهاب بكل أشكاله، بل أيضا بتخفيف المعاناة وأنات الجوع التي تعم الأجواء.

إنها مسألة إنسانية لا سياسية. ومسألة مستقبل لا حاضر. إنها مسألة ينبغي أن تكرس العولمة بمسراتها وبهمومها وأناتها، وأن تحتضن جوع بعض "مواطنيها".


هناك تعليق واحد:

  1. محمد الغالي والكبير .. جميل جدا ماتطرقت إليه, الموضوع اكثر من فاخر.. أعجبني جدا والمعلومات التي به صدمتني بالفعل .. مزيدا أيها المثابر ..

    ردحذف