الخميس، 24 سبتمبر 2009

مجموعة غيرت ثقافة "الكاوبوي الاقتصادي"!



( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )

محمد كركوتــي

إنها القمة.. الثالثة لـ "مجموعة العشرين"، بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، والثانية بعد خروج إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن من البيت الأبيض (الإدارة لم تفهم المكانة التاريخية والإستراتيجية للمجموعة). إنها القمة.. التي تكرس حقيقة أن هذه المجموعة أخذت بالفعل زمام المبادرة والأمور على الساحة الاقتصادية العالمية. إنها القمة.. التي ستعزز "صيغة العشرين"، بدلا من صيغ " السبع " أو "الثماني" أو حتى "الـ 14"، رغم إعجاب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بهذه الأخيرة. إنها القمة.. التي تختصر أكبر نسبة من المجاملات، وتضخ أكبر "كمية" من الصراحة. إنها القمة.. التي تجعل العالم أقل توترا في ظل الأزمة الاقتصادية التاريخية، وأكثر تناغما مع طروحاتها. إنها القمة التي تستطيع الدول المنضوية تحت لوائها ( بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية في ظل إدارتها السياسية الحالية)، أن تفخر بأنها سنت ( وتسن) قوانين غيرت معالم ثقافة "الكاوبوي الاقتصادي" الذي سيطر على أسواق المال في العالم على مدى عقدين من الزمن، ولم يأت "برأس واحد من البقر" إلى الحظيرة، بل على العكس نفقت الرؤوس التي كانت موجودة أصلا!. إنها القمة.. التي ستتضح معها علامات مواجهة الأزمة الاقتصادية أكثر فأكثر. فـ "مجموعة العشرين"، هي المجموعة الوحيدة في التاريخ الحديث، التي نضجت في زمن قياسي قصير، من جراء أزمة تركت هموما لسنوات طويلة.
إنها القمة التي يجب أن تستكمل - أو تقترب من استكمال- عملية إنهاء وجود "نوادي النخبة" التقليدية، لماذا؟.. لأن "مجموعة العشرين" (مرة أخرى، خصوصا مع زوال إدارة بوش الأخيرة)، تعمل بمفهوم "الإشراك"، لا بذهنية "الإقصاء". ولأنها كذلك، فهي المجموعة العالمية الوحيدة، التي يمكن وصفها بـ "التكنوقراطية". بمعنى أنها المجموعة ( أوالهيئة) القادرة على العمل بأقل حد من "التسييس"، وأعلى مستوى من الواقعية، مستفيدة من جانب إيجابي، طرحته الأزمة العالمية، وهو أن المصائب التي أتت بها الأزمة، دحرت التكتلات التقليدية وسياسات المحاور وحتى المجاملات، كما أنها وضعت العالم ليس فقط أمام مسؤولية إيجاد الحلول لهذه الأزمة، بل أيضا أمام "استحقاق" إعادة صياغة نفسه، بصورة لا تشبه الصياغة التي كانت، ولا المفاهيم التي سادت، ولا المسلًمات التي "حكمت" الأسواق والمجتمع.. بل والدول. فما كان ينفع في "اصطياد البقر"، لم يعد يصلح حتى لاصطياد الفراشات!.
أمام قمة العشرين الثالثة بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى، ملف يمكن وصفه بـ " مأسسة" مجموعة العشرين، إلى جانب الملفات الأخرى التي طرحتها الأزمة. وإذا أراد قادة المجموعة أن يحققوا إنجازات واقعية وعملية من خلال هذه القمة ( وغيرها من القمم المقبلة)، عليهم أن يتعاطوا مع هذا الملف بنفس الأهمية التي يتعاملون فيها مع الملفات الأخرى. إن الانخراط في معارك – وحتى مناوشات- حول أي المجموعات أفضل للعالم ( "السبع" أم "الثماني" أم " الـ 14" أم " العشرين").. لا يخرج عن نطاق المعارك "الصبيانية" و"خناقات" الأزقة، في ظل أزمة "يشيب لها الولدان"!. فالعالم يحتاج إلى "مرجع" لا يشبه المراجع التقليدية التي أثبتت فشلها "بجدارة"، عندما وقفت عاجزة عن إيقاف ضربات الأزمة، بل عجزت حتى عن التقليل من قسوة هذه الضربات. ويحتاج العالم أيضا – وبنفس الوتيرة- حلولا واضحة المعالم، لا تستند إلى أي اعتبارات وطنية ( خصوصا السياسية – الحزبية )، أو حتى إقليمية. فالانكماش الاقتصادي العالمي، لن يتحول إلى "ازدهار اقتصادي"، إذا ما أراد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي شيئا، وأراد رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون شيئا آخر. والأمر نفسه ينطبق على كل قادة دول مجموعة العشرين، لاسيما قادة الدول الكبرى. فعلى سبيل المثال يرى براون ضرورة للعمل من أجل منع حدوث انهيار اقتصادي عالمي آخر. حسنا.. إنه طرح مثير للإعجاب والتقدير، لكن رئيس الوزراء البريطاني سيخوض بذلك معركة جديدة، قبل أن تنتهي المعركة الحالية!.
وفي الوقت الذي نشهد فيه وجود إدارة أميركية شابة ومتعاونة ومتفهمة لما جري ويجري وسيجري، ومؤمنة بأهمية الإشراك لا الإقصاء، نرى حكومات أوروبية راسخة خبرة وتجربة، تناوش بعضها البعض، حول مشاريع الحلول للأزمة أولا، وحول حجم الخطوط التي يجب أن ترسم بها خريطة الاقتصاد العالمية. فعلى الأوروبيين أن يستغلوا الحكمة التي تتحلى بها الإدارة الأميركية الحالية، لاسيما وأنهم – والعالم معهم – عانوا الأمرين من الإدارة الأميركية السابقة، ليس فقط في مجال التفاهم حول الحلول، بل في نطاق جهل هذه الإدارة لحقيقة ما يجري. إن القضية لن تنتهي باستكمال تنفيذ اتفاق قمة مجموعة العشرين الأخيرة في لندن، بضخ 5000 مليار دولار أميركي في هيكلية الاقتصاد العالمي، لإعادة الأمور إلى نصابها. ولن تنتهي بالاتفاق على حد أقصى لرواتب ومكافآت مدراء المصارف والمؤسسات المالية الكبرى، ولن تنتهي بشراء ديون المؤسسات أو تأميمها، أو تغطية عجز المقرضين والمقترضين، ولن تنتهي بضخ المزيد من الأموال في المؤسسات الدولية ( مثل البنك وصندوق النقد الدوليين)، ولن تنتهي بـ "مسح" الملاذات الضريبية الآمنة، ولا بـ " القضاء" على المتهربين الكبار من الضرائب. ولن تنتهي بتحديد سقف لأسعار البترول في الأسواق العالمية، ولن تنتهي بوقف "الغزو" التجاري الصيني للدول الكبرى.
إن القضية تحتاج إلى شيء أكبر وأقوى وأكثر فاعلية من ذلك. تحتاج إلى مجموعة دولية، تعرف احتياج الكبير ومتطلبات الصغير، وتعي أن العالم لم يعد كما كان قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، ولن يعود إلى ما كان عليه، وأن ما كان يفيد دولة كفرنسا بالأمس، لن يفيدها في الغد، وما كان يعتبر نصرا وطنيا وقوميا ألمانيا في السابق، لن يكون كذلك الآن، وأن "المسلًمات الأميركية" التي كانت تسود العالم قبل الأزمة، تحولت إلى " مضحكات" بعدها.
إن "مجموعة العشرين" – بمفهوم الإشراك- وبوجود دول فيها ( مثل المملكة العربية السعودية والبرازيل والهند واندونيسيا وغيرها) إلى جانب "دول النخبة" السابقة، تمثل أفضل هيئة دولية موجودة على الساحة، ليس من أجل وضع الحلول والإشراف على جودة تنفيذها فقط، بل من أجل "صناعة" خريطة اقتصادية عالمية، لا "مسلًمات" بين خطوطها، ولا "نجوم اقتصادية" أنتجت أكثر "الأفلام" فشلا، وأشدها تدميرا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق