الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

أخلاق مصرفية .. لا تُصرف!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )
«العالم يحترق بنار الرغبة في الجشع والغطرسة والأنانية»
الفيلسوف الهندي سري جورو جرانث
محمد كركوتــي
للشاعر الأمريكي روبرت فروست تعريف بليغ للمصرف (البنك). فهو يقول: ''إن المصرف هو المكان الذي يقرضك مظلة في الطقس الصافي، ويطالب باسترجاعها عندما يبدأ المطر بالهطول''!. وإذا كان هذا التعريف ينطبق على عملاء المصرف – ولا سيما المقترضين من أجل الضروريات لا الكماليات - إلا أنه لم يكن قابلا للتطبيق على مديريه، فهؤلاء هم الذين يقررون استعادة المظلة في اليوم الماطر. من الصعب أن تجد عميلا لمصرف ما ''هائما في حبه''، وفي المقابل.. من السهل العثور على عميل، يمكنه أن يستعرض أمامك جملة من السلبيات عن مصرفه، مع مسحة ''كراهية'' توازي هذه السلبيات حجما. وبسبب تغير الآليات - بل والثقافة المصرفية - التي كانت سائدة منذ 20 عاما، وحتى اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية في أيلول (سبتمبر) من عام 2008، تغيرت مسببات الجفاء المعهود بين العميل ومصرفه، من التشدد في منح القروض، إلى توريط العميل في الحصول عليها، دون - طبعا - إغفال ''شهوانية'' العميل للاقتراض، وجشعه في الحصول على الأموال التي يعرف - والمصرف يعرف معه أيضا - أنه لا يستطيع إعادتها!.
وبعيدا عن هذه العلاقة المريضة، التي تراجع حراكها، مع تقدم الأزمة الاقتصادية العالمية، فإن حالة مديري المصارف – ولا سيما الكبرى منها - أصبحت شبيه بحالة عملائهم. فالمظلات التي استعادوها في اليوم الماطر، سيتخلون عنها عنوة في اليوم الماطر والعاصف أيضا، الذي اختفت فيه حتى الملاجئ!. ولأن الوضع كذلك، فإني أستطيع أن ألمح ''ابتسامات'' العملاء المكبلين بالقروض - غير الميسرة - وأولئك الذين تُركوا على قارعة الطريق، يحاولون العثور على ملاجئ تقيهم الأمطار الرعدية والبرقية وزوابعها. فـ ''الإنفلونزا'' المؤكدة التي سيصابون بها، سيتابعونها في تحركها لإصابة المديرين أنفسهم. لماذا؟.. لأن ''المظلات'' آخذة في التجمع بأيدي الحكومات، التي أصبحت شريكة في بعض المصارف، وصاحبة رأس المال الأكبر - والكلي - في بعضها الآخر، عندما تدخلت - وتتدخل - لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه المؤسسات المالية.
لقد انتقل ميدان ''الأخلاقيات المصرفية'' التي لا تُصرف، من ساحة المصارف والعملاء، إلى ساحة المصارف والحكومات. فالتدخل الحكومي الذي كان مُحرما في مصارف الدول الغربية بشكل عام، بات ضروريا في الوقت الراهن. ليس فقط بسبب الأموال الحكومية - أموال دافعي الضرائب - التي ضخت في هذه المؤسسات، بل أيضا من أجل أن يتوصل العالم أجمع - وليس الدول الغربية فقط - إلى وضع نظام مالي عالمي جديد، على رأس أولوياته، التعلم من عِبر الأزمة التي فاقت كل الجامعات في زخم دروسها. ومن ضمن الملفات التي وضعت على الطاولة، ملف لا يوجد مدير مصرف واحد يريد فتحه، وإن تمكن من حرقه لن يتردد لحظة واحدة. ملف يعج بوثائق الجشع والغطرسة والأنانية، من المستحيل العثور فيه على ورقة واحدة ترتبط بالأخلاق. إنه ملف مكافآت ورواتب مديري ورؤساء المصارف. فهذا الملف دخل التاريخ مرتين. في المرة الأولى: من هول المكافآت والرواتب الضخمة التي يصرفها المديرون لأنفسهم. وفي المرة الثانية: لأنه وُضع لأول مرة، ضمن نطاق مباحثات ومفاوضات، الدول التي أخذت زمام المبادرة الاقتصادية العالمية، من خلال ''مجموعة العشرين''. فحتى المجموعات والكيانات الدولية التاريخية المعروفة الأخرى ( مجموعة السبع والثماني، والاتحاد الأوروبي وغيرها)، لم تُقدم في السابق على مثل هذه الخطوة. لقد كانت الحصانة المريعة التي تمتعت بها هذه المصارف والمؤسسات المالية، على مدى عقود من الزمن، سببا رئيسيا في الدمار الاقتصادي الذي يعيش فيه العالم الآن.
تتحرك فرنسا ومعها كل دول الاتحاد الأوروبي - ما عدا بريطانيا - لسن قانون دولي من خلال ''مجموعة العشرين'' في قمتها التي تنعقد في الولايات المتحدة أواخر شهر أيلول (سبتمبر) الجاري، يضع حدا أقصى لرواتب ومكافآت مديري المصارف. والتحرك الفرنسي جاء عمليا في أعقاب إجراءات وضعتها حكومة الرئيس نيكولاي ساركوزي، وقبلتها البنوك الفرنسية لتقليص هذه الرواتب والمكافآت، لا سيما تلك التي تدفعها المصارف لمضاربيها، أو لنقل إلى ''مقامريها''. لكن في بريطانيا وجهة نظر أخرى، وإن تماشت مع التحرك الفرنسي في خط، إلا أنها ليست كذلك في خط آخر. فرئيس الوزراء جوردون براون، تعهد باتخاذ إجراءات صارمة بشأن المكافآت المبالغ فيها في إطار مسعى دولي، ويعتبر أن الرواتب والمكافآت يجب أن تُمنح على أساس النتائج على المدى الطويل، وليس وفق معايير المكاسب عن طريق المضاربات، بل ويمضي أبعد من ذلك بمطالبته بضرورة أن تُسترد المكافآت إذا ما تدهور الأداء في الأعوام اللاحقة. وهذا ''جميل جدا''، لكن الجانب ''غير الجميل''، هو أن براون، لا يرغب في وضع حد أقصى للمكافآت بشكل عام!. ولا شك في أن رئيس الوزراء البريطاني أراد بموقفه المتباين مع موقف الرئيس الفرنسي، أن يحافظ إلى أقصى مدى على وضعية لندن كأهم مركز مالي أوروبي، لكن غاب عنه، أن الأزمة الاقتصادية العالمية، غيرت كثيرا من الأساسيات، وقلبت كثيرا من الثوابت التي كانت قائمة قبلها. والغريب أن الإدارة الأمريكية تقف إلى جانب الحكومة البريطانية في موقفها هذا، على الرغم من أن الولايات المتحدة، كانت من أكثر الدول اكتواء من لهيب هذه المكافآت والرواتب و''بقشيش'' السمسارة!.
والأغرب من هذا، أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه، لم يتوقف عن مهاجمة مديري المصارف، بسبب مكافآتهم الهائلة التي يمنحونها لأنفسهم، ومن عدم تعلمهم من دروس الأزمة. والواقع أن الوقاحة بلغت أعلى مستوى لها عند مديري المصارف والمؤسسات المالية الأمريكية، عندما صرفوا لأنفسهم أكثر من 19 مليار دولار أمريكي كرواتب ومكافآت.. وماذا أيضا؟.. حوافز! عن عام 2008، الذي انفجرت فيه الأزمة الاقتصادية، بل إن حجم هذه الأموال، لم يتراجع حتى في ظل الضخ المالي الحكومي في المصارف والمؤسسات المالية!. فهذه '' القطط'' (المديرون المصرفيون) تسمن في وقت يعاني فيه العالم أجمع ''من سوء التغذية''، وتتضخم في زمن تتقزم فيه مؤسساتها!. والحالة نفسها تقريبا في بلد كبريطانيا. فلا تزال قصة المدير السابق لمصرف ''بنك أوف اسكوتلاند'' فريد جودوين الذي رفض التنازل عن راتبه التقاعدي مدى الحياة البالغ مليون دولار أمريكي سنويا، رغم أن مصرفه مني بخسائر في عام 2008 بلغت أكثر من 34 مليار دولار أمريكي.. لا تزال هذه القصة تدور في الأروقة والساحات. ولمزيد من الدهشة، فإن خسارة هذا المصرف هي الأكبر على الإطلاق في تاريخ المؤسسات المالية البريطانية، يضاف إليها 400 مليار دولار، هي عبارة عن ديون مشكوك في تحصيلها، بل لنقل ''ديون معدومة''.
والذي يزيد من غرابة موقف رئيس الوزراء البريطاني الرافض لوضع حد أقصى لرواتب ومكافآت المصرفيين، أنه هو نفسه قال: ''أنا مستعد لتقليص راتبي ولا أخشى عليه. وإذا ما تم الاتفاق على تطبيق ذلك على الجميع، فسأكون مستعداً بالكامل لهذه الخطوة. فأنا لا أقوم بعملي الحالي في سبيل المال''. مرة أخرى.. إنه كلام جميل، خصوصا وأن جوردون براون، ليس من أولئك السياسيين الماكرين، لكن الكلام سيكون أجمل، لو تعاون هذا الأخير مع قادة الدول الساعية، لوضع حد لجشع مديري المصارف. وخطوة مثل هذه ستخفف آلام الأزمة الاقتصادية في مجتمعات، شهدت تصاعد قوة المصارف الكبرى، لتتوازى في بعض الدول مع قوة الحكومات نفسها. إن تحديد مستوى الرواتب والمكافآت في القطاع المصرفي، لم تعد داخلية أو محلية أو وطنية، لقد أصبحت عالمية، لأنها - أي المصارف والمؤسسات المالية - قدمت أزمة اقتصادية لا شبيه لها في التاريخ الحديث، والذي يرضي الرأي العام حاليا، هو كبح جماح المديرين المصرفيين، بعدما تم كبح جماح الأدوات المصرفية التي كانت محصنة من الضوابط والشكوك والمساءلة. والخلاف البريطاني - الأوروبي حول هذه القضية، سيدفع الرئيس الفرنسي للحديث مجددا، عن الدور المدمر للنظام الاقتصادي ''الأنجلو سكسوني''، الذي ذوبته الأزمة الاقتصادية، ومنحت صنع القرار لـ ''مجموعة العشرين''، ليس فقط لتأسيس نظام مالي عالمي جديد خال من الشوائب والريبة، ومن مبدأ ''دع السوق تصحح نفسها''، بل لتحديد مستوى معاشات مديرين يكافئون أنفسهم حتى على الفشل!!.

هناك تعليق واحد:

  1. كم أنت رائع يا صديقي،
    تكتب -بالضبط- ما نحن بحاجة لقراءته.
    دمت مبدعا وسعيدا
    محمد عبد الرحمن

    ردحذف