الثلاثاء، 25 أغسطس 2009

قوانين ضريبية تشبه الجبنة السويسرية!




( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")

"عندما تكون هناك ضرائب، الرجل الشريف يدفع أكثر، وغير الشريف يدفع أقل، على نفس الدخل".
الفيلسوف اليوناني أفلاطون

محمد كركوتــي

ادفعوا الضرائب قبل فوات الأوان. يمكن لهذه الجملة أن تشكل شعارا للمرحلة المقبلة على الساحة العالمية، مع بدء حكومات الدول النافذة بـ "تزييت" أسلحتها الضريبية التي علاها الصدأ طوال العقود الماضية. الحرب الضريبية الجديدة، لا تختلف من حيث اتساع رقعتها، عن الحرب العالمية الثانية، التي كانت تدور في قلب أوروبا، ومعاركها المتصلة وصلت العالم أجمع بكل قاراته وبحاره ومحيطاته. وإذا كانت الحروب ناتجة عن فشل المعارك السياسية والدبلوماسية، فإن الحرب الضريبية ولدت من أزمة اقتصادية عنيفة، دفعت الحكومات - ومعها الشعوب - إلى البحث عن مصادر مالية، حتى لو كانت" حصالات الأطفال". فعندما تحتاج إلى المال، تبحث عنه "تحت البلاطة"، بعد أن يصبح البحث في الجيوب أداء عبثيا. والحكومات - ومعها المؤسسات المالية المشينة - التي ارتكبت هذه الأزمة، دخلت التاريخ مرتين. في المرة الأولى: لأنها قدمت للعالم أزمة لا تشبهها أخرى في بشاعتها. وفي المرة الثانية: لأنها اتبعت سياسة " البحث تحت البلاطة". سياسة لا تحتاج إلى مفكرين اقتصاديين - ملهمين أو غير ملهمين - بل مجرد استعارة من سلوك الجدة، مع فارق كبير، هو أن الجدة تدخر "القرش الأبيض" لليوم الأسود، بينما تقوم الحكومات من خلال الحرب الضريبية، باستئصال "القرش الأسود"، ليوم أسود منه! فقد أسود هذا القرش، لأنه لم يتم تحصيله في وقته.

ها هي الحكومة البريطانية ومعها الإدارة الأمريكية، تشن الحرب، بعد أن أعلنتاها في لندن خلال "قمة العشرين" الأخيرة التي عقدت في نيسان (أبريل) الماضي، وبدأت حكومات غربية أخرى بالانخراط في حرب، لا أحد يستطيع أن يتنبأ بنتيجتها. فإذا استطاع المتهربون من الضرائب - وتحديدا الأثرياء جدا منهم - طوال عقود ابتكار آلاف الحيل، واكتشاف العشرات من الملاذات الضريبية الآمنة - ولا سيما في الدول الهجينة - هل يعجزون عن استكشاف حيل جديدة، تتناغم مع متطلبات المرحلة وأدواتها؟ فهؤلاء أكثر الناس استهزاء في توصيف الرئيس الأمريكي الراحل فرانكلين روزفلت للضرائب حين قال: "إن الضرائب هي عبارة عن رسوم عضوية في مجتمع منظم". ولأنهم كذلك.. لن يتغاضوا عن وسيلة التفافية جديدة في الحرب الجديدة، وسيستخدمون كل "إبداعاتهم" الاحتيالية، لإبقاء ما أمكن من كشوف الحسابات بعيدة عن أعين موظفي الضرائب. ولذلك فإن القوانين التي تفرضها حرب الضرائب، يجب أن تكون بلا ثغرات، ولا فجوات، وبلا خطوط التفافية.

الحرب بدأت. من أين؟ من جبال الألب حيث تقع إمارة ليختنشتاين (أو ليشتنشتاين)، وهي دولة مستقلة، تعتبر "جنة الهاربين من الضرائب" و"مرابع" لأموال العصابات المنظمة. وقد تحولت هذه الدولة من "بلد مارق ضرائبيا"، إلى بلد متعاون في هذا المجال، في أعقاب توقيع اتفاق مع بريطانيا، يشجع المودعين البريطانيين في مصارفها، على التعاون مع حكومتهم، عن طريق قبول عرض بدفع 10 في المائة كغرامة، عن الفترة التي "نجوا" خلالها من الضرائب، وإلا ستتم ملاحقتهم - ليس ضريبيا - بل جنائيا، مع رفع الغرامة إلى 30 في المائة. وفي أعقاب هذا الاتفاق التاريخي، جاء قرار المحكمة البريطانية بإلزام 308 مصارف بإطلاع سلطات الضرائب البريطانية على تفاصيل حسابات عملائها، الذين يحتفظون بها في الخارج. وطبقا للتقديرات الحكومية البريطانية، فإن حجم الضرائب "الهاربة" يصل إلى ما يقرب من 100 مليار دولار أمريكي، هي عبارة عن مفقودات للخزانة العامة. في إيطاليا، هناك 170 ألف حالة تهرب ضريبي، من بينها - وهذه صدمة بذاتها - مبلغ يزيد على مليار يورو هربته عائلة إنييلي المالكة لمؤسسة "فيات" الشهيرة إلى خارج البلاد، وأودعته في مصارف أجنبية! ولنا أن نقيس على ذلك هويات غالبية المتهربين من الضرائب في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وللمزيد من الصدمات، فإن مصرف "يو بي إس" السويسري العملاق الذي يتفاخر بوجود 52 ألف عميل لديه، وافق على الكشف عن أسماء وحسابات 4450 ثريا أمريكيا أمام السلطات الأمريكية. فإذا كان مصرف واحد في سويسرا، يضم هذا العدد الهائل من المتهربين الأمريكيين، فما إذن.. عدد المتهربين في بقية المصارف السويسرية؟!

لا تزال هناك دول وشبه دول (أفضل تسمية هذه الأخيرة بالدول الهجينة التي لا تعرف هوية لها)، تقاوم الحرب الضريبية، وفي مقدمتها سويسرا. والواقع أن مقاومة هذه الدول والدويلات، لا تنحصر فقط في إبقاء الحسابات المصرفية الناتجة عن أعمال شرعية سرية، بل تشمل أيضا عدم الوصول إلى حسابات تتكدس فيها الأموال "المغسولة" أو المعدة للغسيل، العائدة إلى عصابات منظمة، تمارس كل أنواع الموبقات، بما في ذلك تجارة المخدرات والسلاح والاتجار بالبشر، فضلا عن العمولات الهائلة التي تعود إلى مسؤولين في دول لا محاسبة ولا حتى حسابات فيها، بل إن بعضها بلا مصارف أصلا! وإذا ما دارت المعارك في الحرب بصورة فنية ولوجستية جيدة، لنا أن نتوقع الفضائح المريعة التي ستظهر شيئا فشيئا. فحتى الدهشة ستكون قاصرة عن التعبير من هول هذه الفضائح! ولهذا السبب استشاط المسؤولون السويسريون غضبا من خطط الدول الكبرى الهادفة إلى "تفكيك" الملاذات الضريبية الآمنة، وهاجموا بعنف منظمة "التنمية والتعاون الاقتصادي" التي تتخذ من باريس مقرا لها، بعد أن وضعت بلادهم ضمن البلدان التي لا تتعاون في مجال السرية المصرفية، بل إن هؤلاء هددوا المنظمة، بالتوقف عن دفع حصة سويسرا في تمويلها!

إن حماس الولايات المتحدة وانخراطها المتدفق في الحرب الضريبية، سيسهم في تحقيق الانتصار الذي تنتظره الحكومات الباحثة عن المصادر المالية، ليس للتجمل، بل لتعزيز خططها الإنقاذية للمؤسسات والشركات التي إذا ما تهاوت، تصيب الحكومات نفسها بالعدوى. ومن المفارقات في الولايات المتحدة، أن المؤسسات التي دخلت في نطاق خطط الإنقاذ الحكومية، قامت بالتهرب من الضرائب، الأمر الذي يدعو إلى الغثيان، ويضع مسألة الأخلاق الغائبة عن القائمين على هذه المؤسسات مرة أخرى على طاولة البحث والعقاب. ولعل هذا ما يدعم كلام الرئيس الأمريكي باراك أوباما أخيرا، عندما قال: "يبدو أن مؤسسات "وول ستريت" لا تزال تفكر بذهنية ما قبل الأزمة، ولم يتعلم القائمون عليها من التجارب المريرة السابقة". ومع ذلك يبدو الإصرار الحكومي الأمريكي قويا وغير قابل لليونة في مسألة الضرائب، سواء داخل البلاد أو خارجها. هذا الإصرار بدأ في تحويل أميركا إلى "أرض الضرائب" ، ولمن نسي، فقد أنشأت أمريكا أصلا لتجنب الضرائب! يقول شولمان دوجلاس رئيس مصلحة الضرائب الأمريكي: "إن المصلحة ستتعقب بحزم عمليات الاحتيال الضريبي في أنحاء العالم، ولا يهم المكان إذا كان بعيدا أو سريا".

لكن الإصرار والحزم، لن يصمدا أمام فنون الاحتيال. وإذا ما أُريد لهذه الحرب أن تنتهي لمصلحة الحكومات، على هذه الأخيرة، أن تضع الخطط على طريقة المحتالين، تماما كما يفعل مكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة، عندما يريد تفكيك العصابات المنظمة. فالغرامات التي ستفرض على الذين سيواصلون التهرب الضريبي، لن تؤدي إلى وضع هؤلاء ضمن اللوائح الضريبية الشرعية، لأن "الفن الاحتيالي" لا حدود له. والمصيبة أن بعض المتهربين من الضرائب في سويسرا قاموا بتسجيل شركات وهمية، لتوزيع الأموال عليها، حتى قبل نشوب الحرب ضدهم! ولذلك ينبغي أن يفكر "قادة الحرب"، كما يفكر هذا المتهرب أو ذاك. فقد أثبتت التجارب أن القوانين الضريبية - وإن كانت قوية ومتماسكة - تظل مثل الجبنة السويسرية، متماسكة لكنها مليئة بالثقوب.

المطلوب.. فكر احتيالي لمقاومة الاحتيال والتهرب الضريبي، وقوانين تشبه الجبنة الإنجليزية (تشيدر)، من أهم ميزاتها أن لا ثقوب فيها!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق