الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

"تسويق" حكومي أجنبي بفضائيات عربية


(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




" البث التلفزيوني الحكومي، يقوم على التبليغ لا على توصيل المُعلنين إلى المستهلكين"

بات ميتشيل الرئيسة التنفيذية
لمركز بالي الأميركي للإعلام
(متحف الإذاعة والتلفزيون سابقا)

 
 
محمد كركوتــي
 
لم يحظ المشاهد العربي في السابق تدافعا نحوه من جانب حكومات أجنبية، عن طريق إطلاق قنوات فضائية مجانية ناطقة باللغة العربية، كما يحظى اليوم. فقد تحول إلى هدف معلوم، لجهات معلومة أيضا، ومتلقي "متخم" بكل أنواع الفضائيات، بما في ذلك فضائيات التداوي بالأعشاب، وترتيب أطباق الطعام في الخزائن، وكيفية شرب المياه، وأغاني الـ "إس إم إس". ( يوازي عمق "طرب" هذه الأخيرة، مستوى "بلاغة" المفردات المستخدمة في الرسائل النصية القصيرة)!. فعلى مدى أعوام قليلة عج الفضاء العربي بفضائيات، بلغ نشاط توالدها معدل فضائية واحدة كل أسبوع، بصرف النظر عن جودتها ومهنيتها وحتى جدواها. لقد كانت الأموال متوافرة، في عالم كان يعيش طفرة اقتصادية تاريخية، تحولت في مساحة زمنية ليست طويلة، إلى قنبلة انفجرت في كل الأرجاء، لتخلف أزمة اقتصادية غافلت حتى أولئك الذين كانوا يصنعونها!. لن أتحدث هنا عن "البقالات الفضائية"، فبعضها انتهى – بفعل الأزمة- وبعضها الآخر ينازع، لأن الطفرة – عادة – لا تدوم طويلا، وهي على عكس النهضة التي تكفل استمراريتها الذاتية، أو على الأقل تضمن قدرتها على إعادة الانطلاق، في أعقاب حالة تستدعي التباطؤ في مرحلة ما.

توصيف "البقالات الفضائية"، لا ينطبق بأي حال من الأحوال على الفضائيات الأجنبية الناطقة بالعربية. فوراء هذه الفضائيات دول كبرى، لها القدرة على إطلاق فضائيات "يومية"، وتحظى بمكانة – وفي كثير من الأحيان بهيبة - عالمية تؤهلها لامتلاك فضائيات بكل اللغات. لكن هذا لا يعني أن الفضائيات العربية الحالية المملوكة لدول أجنبية، تتمتع بميزانيات مفتوحة. ففي هذه الدول أنظمة محاسبة شعبية - برلمانية، لا يمكن لحكوماتها تجاوزها، وعلى هذه الأخيرة التي تدفع اليوم لفضائيتها العربية – وغير العربية – أن تبرر غدا مدفوعاتها. والخزائن العارمة ( أو التي كانت عارمة) في هذه الدول ليست مفتوحة دائما، لكنها تفتح وفق قواعد إجرائية ومهنية متعارف عليها.

في الفضاء العربي حاليا، باقة من الفضائيات الأجنبية – العربية سعت وتسعى إلى وجود لدولها على الساحة العربية، لاسيما في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، اليوم الذي غيرت فيه الهجمات التي استهدفت الولايات المتحدة الأميركية شكل العالم، وغيرت معه أدوات التشكيل أيضا. يضاف إلى ذلك "استحقاقات امتداد" العولمة – قسرية كانت أم طوعية – على الساحة الدولية، دون أن أستبعد تعاظم الفقاعة الاقتصادية العالمية منذ مطلع القرن الحالي. وباستثناء بريطانيا التي أطلقت فضائيتها العربية ( بي بي سي) في منتصف تسعينات القرن الماضي لفترة وجيزة، وأعادت إطلاقها قبل عامين ونصف العام تقريبا. فإن بقية الفضائيات الأخرى بدأت بإطلاق نفسها تباعا مع بداية الألفية الحالية. الولايات المتحدة الأميركية دخلت بـ " الحرة"، وتبعتها روسيا بـ " روسيا اليوم"، وفرنسا بـ " فرانس 24"، وألمانيا بـ " دويتشه فيلله". ولأنه كما يقول المصريون:" ما فيش حد أحسن من حد"، خاضت الصين غمار الفضاء التلفزيوني العربي بفضائية عربية، وكذلك فعلت كوريا الجنوبية بفضائية مُعرَبة. بل حتى الدنمارك درست – ولا تزال تفكر – إمكانية إطلاق فضائية موجهة إلى العرب.

ولكن هل يمكن لهذه الفضائيات أن تستقطب العدد الذي يبرر وجودها من المشاهدين العرب، في ظل فضاء عربي مفتوح، لا يشبه الفضاء التلفزيوني الذي كان يخيم على المنطقة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي؟. وهل يمكن للمادة العربية الأكثر حرية (الآن) في هذه الفضائيات، أن تغري هذا المشاهد بمتابعتها؟. وهل استطاعت أن تَوصِل بصورة "رشيقة" رسائل دولها إليه؟. لاشك في أن هذه الفضائيات أحدثت حراكا إيجابيا في عمليات تطوير القنوات الأرضية والفضائيات الحكومية العربية، لكنها لم تكن الأولى في هذا المجال. فقد استطاعت فضائيات عربية صرفة تتمتع بحد أعلى من المهنية الإعلامية، أن "تُجبر" عددا كبيرا في المحطات الحكومية في العالم العربي على التطوير – بصرف النظر عن مستواه وزخمه – وجعلت الحكومات أكثر خشية على مصير محطاتها. فعندما لا يكون هناك منافس، تغيب عادة معاول الإبداع. ولذلك لم تشكل الفضائيات الأجنبية – العربية عاملا رئيسيا في هذا المجال، وإن مثلت أداة مساعدة للتحفيز نحو التغيير أولا، وتلطيف الخطاب الحكومي ثانيا. يضاف إلى ذلك أن الفضائيات العربية (الصرفة) تجاوزت الحكومية بأشواط طويلة جدا، الأمر الذي جلب لها شرائح متعددة ومتنوعة وعريضة من المشاهدين العرب. فعندما كان المشاهد العربي يفضل – على سبيل المثال - الـ " بي بي سي" العربية في تسعينات القرن الماضي على قنوات بلاده، لم تكن في الأجواء العربية فضائيات أخرى أصلا، ولذلك كان يرى في هذه المحطة الأجنبية "ملاذا ومصدرا آمنا وصادقا" للحصول على معلومة ذات جودة عالية.

أما بالنسبة إلى المادة المقدمة. فقد تحسن مستواها في الفضائيات العربية – مرة أخرى الحرفية – وباستثناء بعض المحظورات (وهي قليلة بالفعل)، فإن مادة الفضائيات الأجنبية العربية، لا تسجل تفوقا عارما على مثيلاتها العربية. بل أن بعض الفضائيات العربية تقدمت في المادة الإخبارية في كثير من الأحداث الرئيسية، لأنها كانت تنفق عليها أكثر من إنفاق الأجنبية نفسها. وطبعا لا مجال للمقارنة في المادة الدرامية، بين الأجنبية ونظيراتها العربية. فهذه الأخيرة، تولي اهتماما كبيرا لهذه المادة، التي توفر لها أعلى درجة من المشاهدة، بينما لا تبدي "الأجنبية" أي اهتمام في هذا المجال.

لست متأكدا من أن الفضائيات الأجنبية تمكنت من تسويق دولها للمشاهد العربي. فهذا النوع من التسويق، يواجه عادة مصاعب كبيرة في تحقيق أهدافه، حتى في الدول التي تمتلك أدوات إعلامية متطورة. وأذكر أنني كنت ضيفا على إحدى هذه الفضائيات، أناقش موضوع الأزمة الاقتصادية العالمية، وأداء الدول الكبرى في مواجهتها، عندما أرادت المذيعة أن تدفعني للإشادة بأداء الدولة التي تمول هذه الفضائية. وعلى الرغم من "مقاومتي" الحوارية لكي لا أنجر ورائها، ظلت "تقاوم" من جانبها، إلى أن تمكنتُ من تحويل مجرى الحديث بصورة غير مباشرة، حفاظا على مستوى الحوار. إن الغالبية العظمى من مشاهدي الفضائيات – عربا أم أجانب – ليسوا مغرمين في متابعة " تسويق الدول". بل يسعون من خلال متابعاتهم التلفزيونية إلى مزيد من الخدمات (بكل قطاعاتها) وبالطبع يتطلعون إلى الترفيه. وإذا أرادت الدول التي تمتلك الفضائيات العربية تسويق نفسها للمشاهد العربي، عليها أن تتوجه إلى هذا المشاهد المقيم فيها في الدرجة الأولى. فهذا الأخير يحتاج بالفعل إلى مزيد من جرعات التعريف والتوعية المحلية، وهو أمر ليس متوافرا في أكبر الدول وأكثرها رسوخا، لاسيما وأن هناك جاليات عربية متعاظمة في البلدان نفسها، تحتاج أيضا إلى ما يمكن تسميته " الإشراك" في المجتمعات التي تعيش فيها، ليس من أجل الذوبان في هذه المجتمعات، بل للحصول على دور أكبر في عملية التنمية والتطور والتثقيف، وحتى المشاركة السياسية والاجتماعية.

أي أن تكون في الدول المتدافعة نحو المشاهد العربي في المنطقة العربية، وسائل إعلام تدعم المشاركة على صعيد الأجانب الذين يعيشون فيها. وهي بذلك تستطيع أن تحقق الكثير من الأهداف الذاتية، بينما ستكون عملية تسويق الدول نفسها أكثر سهولة ومنطقية في مرحلة لاحقة. وأحسب أن هذه الدول تعرف، بأن الفضاء العربي المليء بقنواته التلفزيونية الخاصة، ليس سهل الاختراق، خصوصا عندما يكون الهدف "تسويقا حكوميا".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق