الأحد، 15 نوفمبر 2009

السوق في مواجهة المجتمع!

(هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية")













" الأشياء الأخرى قد تغيرنا.. لكننا نبدأ وننتهي مع الأسرة "
الكاتب الأميركي أنتوني براندت


محمد كركوتــي

لم تنجح حكومات على مر التاريخ، في تكريس مبدأ، أن السوق هي التي تضع معايير المجتمع، لا العكس. فهذا المبدأ الذي وضعته والتزمت به بعض الأحزاب السياسية التي حكمت عددا من البلدان الأوروبية، وكذلك الأمر مع بعض الإدارات التي حكمت الولايات المتحدة الأميركية، كان يعيش لفترة، ولكنه لا يموت إلا بمصيبة اقتصادية – اجتماعية عامة. كانت مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية المحافظة السابقة، الرمز الأكبر لـ "التيار السوقي"، وكانت لا تعترف بالمجتمع كمحرك لذاته، بل لا تعترف بوجوده أصلا. ماذا حدث على مدى 11 عاما، حكمت خلالها تاتشر بريطانيا طوال العقد الثامن من القرن الماضي؟. أشرف اقتصاد بلادها على الانهيار، بعدما تمزقت مفاهيم الأسرة، وسادت مفاهيم السوق الخالية من الضوابط. ونشأت في تلك الفترة شريحة طفيلية مدمرة، استطاعت أن تحقق مكاسب مالية كبيرة، عن طريق الغش والخداع، تشكلت من الفاشلين في كل شيء، إلا في الاحتيال.

كانت الأسرة التي تشكل المجتمع، في الدرجة الأخيرة من أولويات حكومة تاتشر – والحكومات الأخرى التي استلهمت المبدأ التاتشري- وتصدرت المصارف التي كانت تعقد الصفقات الاسمية أو الوهمية أو الورقية سلم الأولويات ( وهذا ما حدث قبل الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة)، والشركات الصغيرة والمتوسطة، التي كانت تظهر لأقصر فترة ممكنة، ثم تختفي، بعد أن تكون قد جمعت ما أمكنها من الأموال غير الشرعية، وأيضا المحتالون الذين عرفوا كيف يقدمون لوحة جميلة، لأبشع منظر ممكن. وسط هذا الخراب الاقتصادي المتعمد، كانت الأسرة تتعرض للقضم شيئا فشيئا، إلى أن زال حراكها الاجتماعي تماما، وأصبحت عبارة عن مجموعة أفراد تجمعهم صلة القرابة فقط، لا حراك الحياة. ماذا حدث بعد ذلك؟. قام قادة مؤثرون في حزب المحافظين الحاكم آنذاك، في ليلة ظلماء بعملية انقلاب بيضاء ضد تاتشر، التي خرجت بأبشع صورة مهينة من الحكم. فقد وجد المحافظون العقلاء، أن الخراب لم يتسيد المجتمع فحسب، بل وصل إلى الحزب نفسه الذي تردت سمعته، وخبا بريقه، وتراجع تأثيره.

حل جون ميجور المحافظ مكان تاتشر زعيما للحزب ورئيسا لحكومة البلاد. وعلى الفور رفع شعارا أراد من خلاله أن يستعيد حزبه بعضا من الشعبية التي فقدها على مدى 11 عاما. ما هو هذا الشعار؟ : العودة إلى الأصول". كان ميجور والفريق الحاكم الجديد، يريد أن يكرس حقيقة أن المجتمع ( بتكوينه الأسري) هو الذي يحدد المعايير العامة للسوق، وأن السوق عندما تخرج عن نطاق خصوصيتها ودورها، تجعل من المجتمع ساحة للذئاب، وسط مجموعة من الحملان.

في بريطانيا اليوم، توجها حكوميا مباشرا لتشجيع تشغيل الأزواج وفق عقود عمل لـ "جزء من الوقت"، أو ما يعرف بالإنجليزية بـ Part-time ، لأن حكومة جوردون براون، توصلت إلى ضرورة إبقاء الأسرة مع بعضها البعض لأطول فترة ممكنة، وبأكثر عدد من أفرادها، وتدعيم معاييرها وأخلاقياتها. وبالفعل طلبت وزيرة العمل إيفيت كوبر من رؤساء المؤسسات والشركات البريطانية، توفير الوظائف وفق هذا النوع من العقود، كما طلبت من مكاتب التشغيل ( التابعة للحكومة)، عرض هذه الوظائف على الأزواج الذين يتقدمون بطلبات العمل لديها. وتقول الوزيرة: "إن الحكومة التي تهتم بأداء الشركات والمؤسسات المختلفة، تهتم بصورة أكبر بنوعية الحياة الأسرية،و سبل دعمها". ولأن هذا الأمر لا يروق للشركات، فقد اتهم رؤساؤها الحكومة، بأنها لا تولي اهتماما لأوضاع شركاتهم، التي ترزح تحت ضربات الأزمة الاقتصادية العالمية.

لكن للحكومة نقطة لصالحها. فهي لم تطالب بتوفير الوظائف من قبل الشركات وفق عقود العمل لجزء من الوقت، بل طالبت بعرض الوظائف ذات عقود العمل الكاملة أو ما يعرف بالإنجليزية بـ Full-time ، على أن يجري اقتسام الوظيفة الواحدة بين شخصين، في مكاتب التوظيف التابعة للحكومة، فضلا عن أن المطالبة الحكومية لا تجبر الشركة على تحويل عقد الموظف الحالي لديها من "كل الوقت" إلى "جزء من الوقت"، إلا إذا قبلت الشركة بذلك. وفي كل الأحوال، جاء اتهام رؤساء الشركات للحكومة بعدم اهتمامها بأوضاع شركاتهم تحت الأزمة العالمية فارغا، لأن وزير الأعمال اللورد بيتر ماندلسون، قام بتأخير فرض قانون التشغيل "جزء من الوقت"، إلى أن تنجلي صورة الاقتصاد البريطاني تماما ككل.

لاشك في أن هذه الخطوة، تعزز من الحياة الأسرية. فعلى سبيل المثال، أظهرت إحصائية صدرت مؤخرا، أن البريطاني يحظى بأعلى دخل مقارنة بزملائه في الدول الأوروبية الأخرى، لكن الامتيازات الاجتماعية والترفيهية التي تمنح له، هي الأقل مقارنة بمثيلاتها في بقية دول أوروبا، بما في ذلك طول ساعات العمل. وبصرف النظر عن هذه النقطة، إلا أن التوجه العام لتوفير أكبر قدر من الالتفاف الأسري، بات مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى. لأن المجتمع يعيش حاليا، أسوأ أزماته بسبب تداعيات الأزمة العالمية، ولأن عمليات التصحيح التي فرضتها الأزمة، تشمل بصورة أساسية المجتمع. فهذا الأخير كان – ولا يزال – الأكثر تعرضا لأذى الكارثة الاقتصادية العالمية، والأقل حصانة منها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق