الاثنين، 9 نوفمبر 2009

جرائم الـ"دوت" والـ "كوم" ؟!



(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










 " أُفضل الفشل بشرف عن النجاح بالاحتيال "
الكاتب الدرامي الإغريقي سوفوكليس


محمد كركوتــي

ليس غريبا أن توفر الأزمة الاقتصادية العالمية آليات و"معاول" لمرتكبي الجرائم المالية عبر الانترنت، أو ما أصبح يعرف بـ "الجريمة الالكترونية". فعندما تجف المياه، تزدهر سرقة الآبار من فوهاتها، ومن أخاديدها المخفية تحت الأرض. وعندما تتبخر الممتلكات، تتوجه العيون على ما تبقى منها. والأزمة "شفطت" ما كان في الأيدي والجيوب والخزائن، بما في ذلك الممتلكات ورؤوس الأموال "الوهمية"، أو الاسمية، أو الورقية. ومن كان يعتقد ( فردا أم مؤسسة) أنه يملك المال، اكتشف أنه يخزن "أموالا وهمية"، وممتلكات اسمية!. والجريمة الالكترونية المتصاعدة، تواكب الجريمة التقليدية في كل مكان على وجه الأرض، وتفوقها من حيث الخسائر. فالنشل اليدوي، والسطو المسلح، والسرقة الليلية والنهارية، والاحتيال المتنوع، هي مرادفات، لنشل الهوية الالكترونية، والسطو على مواقع الأفراد والمؤسسات، والسرقة من بطاقات الائتمان وغيرها من أدوات التحويل المالي، والاحتيال على مفاتيح الدخول إلى الشبكة الدولية، مع اختلافين واضحين، الأول: أن احتمالات وقوع المجرمين التقليديين أعلى من إمكانية القبض على المجرمين الالكترونيين، والثاني: أن وسائل وأدوات "التقليديين"، تظل أقل "توالدا" من مثيلاتها عند "الالكترونيين". لماذا؟، لأن "الإبداع الإجرامي" الالكتروني لا آفاق له، وتبدو ملاحقته أقرب إلى اللحاق بالسراب. ولعل هذا ما جعل حكومات تندفع للاستعانة بالمجرمين الالكترونيين التائبين، لملاحقة زملائهم السابقين. ويبدو أن هذه الحكومات – بمؤسساتها الأمنية المختصة – أخذت بنصيحة الشاعر المثير للجدل أبو النواس الذي قال : "وداوها بالتي كانت هي الداء".

لم تكن جرائم الـ"دوت" والـ "كوم"، أو الجرائم الالكترونية، جديدة على الساحة العالمية. فقد بدأت مع تعاظم اتساع رقعة الشبكة الدولية، وعلى الفور أقدمت المؤسسات – بكل أنواعها- على بناء جدران الكترونية مضادة، نجحت في بعض معاركها، وفشلت في بعضها الآخر. كانت – ولا تزال – أشبه بالملاكم، الذي يحقق نقطة لصالحه في المباراة، لكن سرعان ما يحقق خصمه نقطة أخرى. ومع التطور المذهل لأدوات الجريمة الالكترونية، بات المجرمون يحققون نقطتين لصالحهم مقابل واحدة لضحاياهم. والأمر ليس كذلك بالنسبة للأفراد، فهؤلاء بدون "جدران الكترونية مضادة"، ولا يملكون من " الأسلحة" سوى تلك التي توفرها الشركات أو الجهات التي تقدم لهم الخدمات الالكترونية، وهي عادة ما تكون متواضعة من حيث الفاعلية. ومع اندلاع الأزمة الاقتصادية، دخل العالم الالكتروني في فوضى تحمل معها المخاطر أكثر مما تحمله من تشتت.

وفي ظل استفحال الأزمة، حققت الجريمة الالكترونية معدلات عالية لم يسبق لها مثيل. ففي غضون عام واحد فقط ارتفعت في الولايات المتحدة الأميركية أكثر من 33 في المئة، وبلغت الخسائر الناجمة عنها في العام 2008 أكثر من 264 مليون دولار أميركي، مرتفعة من 239 مليون دولار في العام الذي سبقه، بينما لم تتجاوز في العام 2001 حدود 18 مليون دولار، وذلك طبقا لـ "مركز شكاوى الاحتيال عبر الانترنت"، التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالية، المعروف اختصارا بـ "إف بي آي". ومع نهاية العام 2009 ستقفز النسبة إلى مستويات أعلى، لأن العوامل المشجعة على ارتكاب هذه الجرائم لا تزال موجودة على الساحة. والولايات المتحدة تتصدر – من ضمن ما تتصدر – قائمة الدول الأكثر إنتاجا لهذه الجرائم، ومعها بريطانيا وكندا، ومن أيضا؟، نيجيريا والصين!. ولمزيد من "الهم الالكتروني" تعتقد شركة " تريند مايكرو" الأميركية المتخصصة في مجال البرمجيات وخدمات "الأمان الالكتروني"، أن مجرمي الانترنت يستغلون الأعداد الهائلة من المبرمجين المحترفين والبارعين في اختصاصاتهم الذين فقدوا وظائفهم بفعل الأزمة!. وهذا يعني أن العالم لن يصاب فقط بزخم إجرامي الكتروني، بل بـ "عديد" بارع من المجرمين!. مع الإشارة إلى أن الأجواء مواتية أيضا لهؤلاء، بفعل الضبابية التي تشهدها بيئة الأعمال في العالم، لمهاجمة المؤسسات، وطبعا لسلب أكبر عدد ممكن من الأفراد.

لا توجد أرقام حقيقية بعد عن الحسابات المصرفية المخترقة من قبل "مجرمي الانترنت"، ولكن العدد، طبقا لبعض المصارف التي تنشر البيانات في الولايات المتحدة وأوروبا عن هذه العمليات، يتزايد، وبصورة مريعة. فالسرقات تستهدف أكبر قدر من المعلومات المصرفية والهوية والموارد، بواسطة أكثر الطرق تعقيدا. دون الإشارة بالطبع إلى المواد الالكترونية الخبيثة التي ينشرها هؤلاء في أوسع نطاق ممكن، والرسائل الالكترونية غير المرغوبة، التي يصل عددها وفي الوقت الراهن يوميا إلى 115 مليار رسالة، مقابل 75 مليار رسالة في العام 2005 . ومن المذهل ، أن البرمجيات الخبيثة الموجودة على عناوين الانترنت ارتفعت في العام 2008 - حسب شركة " تريند مايكرو" – 256 في المئة، مقارنة بالعام الذي سبقه!!. وإذا كانت المؤسسات والشركات المستهدفة، تستطيع تحديد حجم خسائرها المالية، والعمل على احتواء أزماتها مع مجرمي الانترنت، فإن الضحايا الأفراد يستطيعون – بالطبع - معرفة مستوى خسائرهم، لكن لا توجد طريقة أو وسيلة لتحديد الحجم الحقيقي لخسائر الأفراد مجتمعين، فالغالبية العظمى من هؤلاء، لا يبلغون الجهات الأمنية المختصة، عن عمليات الاحتيال والسرقة التي يتعرضون لها، على الرغم من وصول عدد الشكاوى المرفوعة في الولايات المتحدة وحدها في العام الماضي، إلى 275284 شكوى!. وإذا ما وزع حجم الأموال المسروقة خلال عام واحد فقط على الضحايا المعلومين، فتبلغ الخسائر حدود 931 دولارا لكل ضحية.

ومن ضمن "التسهيلات" التي قُدمت للمجرمين الالكترونيين، أن الشركات والمصارف والمؤسسات المالية، خفضت الإنفاق على حربها ضد هؤلاء، وذلك في إطار التخفيض الذي اتبعته، لمواجهة تبعات الأزمة الاقتصادية. وسرعان ما وجدت نفسها أمام كارثة الأزمة، ومصيبة جرائم الانترنت!. وفي الجانب الآخر، فإن غالبية مستخدمي الشبكة الدولية، ليسوا على قدر من الكفاءة والفطنة التي تمكنهم من المواجهة. فالبرامج الخبيثة لا حدود لها، والأفكار الالكترونية المدمرة تتوالد مثل الفئران. فلم تعد الرسائل غير المرغوبة – على صعيد الأفراد - أداة ناجعة من أدوات الاحتيال والسطو، لأن أمرها فضح عند الجميع، والبرامج التي تستهدف المؤسسات، لم تعد هي الأخرى كما كانت. فالمنهجية الاحتيالية تتغير على مدار الدقيقة لا الساعة، وخسائر هذا النوع من الجرائم يفوق الخسائر الناجمة على الجرائم التقليدية. ويكفي الإشارة إلى دراسة كندية حديثة، أظهرت أن معدل خسائر السطو المسلح يصل إلى 3200 دولار للحالة الواحدة، وترتفع إلى 22500 دولار في حالة السطو عن طريق الغش والخداع. بينما تقفز خسائر السطو الالكتروني إلى 430 ألف دولار، ومعدلات ضبط الجناة تهبط من 95% في حالة السطو المسلح إلى 5% في حالة السطو الإلكتروني!. والمصيبة - حسب الدراسة – أن معدل ملاحقة المجرمين قضائياً لا تتجاوز 1% من "الحالات الالكترونية"!. وتعزيزا لهذه الدراسة هناك أخرى أصدرتها الأمم المتحدة حول جرائم الانترنت، أظهرت أن ما بين 24 و42 في المئة من مؤسسات القطاع العام والخاص في العالم، تعرضت لنوع من أنواع الجريمة الالكترونية، وقد شهدت ارتفاعا أيضا في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية.

وإذا كانت الأزمة قضية – أو مصيبة – عالمية، وفعَلت من مكنونات الجريمة الالكترونية، تبدو على الساحة الآن، ضرورة لـ " عولمة" هذا الهم المتوالد. فهناك الكثير من بلدان العالم ( بأفرادها وحكوماتها) لا تزال دون مستوى خوض الحرب ضد هؤلاء المجرمين. وإذا كانت الدول المتمرسة في هذه الحرب، تربح معركة وتخسر اثنتان، فلا غرابة في أن تخسر بقية الدول المعارك كلها في هذه الحرب. دون أن ننسى بأن غالبية المجرمين الالكترونيين، يعيثون في الانترنت فسادا وإجراما من مواقعهم في الدول المتمرسة نفسها!.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق