الثلاثاء، 16 أبريل 2013

آثام تاتشر الاقتصادية لن تموت معها

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«لا يوجد شيء اسمه مجتمع»
مارجريت تاتشر - رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة


كتب: محمد كركوتـــي


تموت مارجريت ثاتشر، دون أن تموت معها "الآثام" الاقتصادية التي ارتكبتها. طبعاً هناك من يرى، أن رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، قدمت نموذجاً اقتصادياً متطورا وعالي الجودة. ويعتقد هؤلاء، أن فترتها في الحكم، أعادت إلى بريطانيا زخمها، سياسياً واقتصادياً، وأنها انتشلتها من بؤرة الاضرابات، وتحكم نقابات العمال بالقرار العمالي، وأنها وضعت الاقتصاد البريطاني في مكانه الصحيح، وأنها شكلت مع زميلها (آنذاك) الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، ثنائياً كان "ضرورياً" على الساحة العالمية. وعند كارهي أوروبا بأشكالها الوحدودية، كان هذا الثنائي مطلوب، من أجل "التوازن"، ولكي لا يتضخم الأوروبيون بصورة لا يمكن الحد منها. أما عند أولئك، الذين "عبدوا" السوق، في سياق كراهيتهم للمجتمع، كانت ثاتشر حتمية، مع التمنيات (التي انتهت بموت ثاتشر) أن يظهر من يستطيع استنساخها، وصنع "ثاتشرات" إلى الأبد، ولا بأس بأن تكون بجنسيات مختلفة، لـ "ينعم" العالم بعطاءاتها وأفكارها وسلوكياتها ومبادئها.
لولا التحالف الوثيق بين ثاتشر مع إدارة ريجان، لما كان لآثامها الاقتصادية إلا بُعدها المحلي. مع ضرورة الاعتراف بأن بريطانيا كانت تحتاج بالفعل (حين أتت إلى الحكم)، إلى تغيير في أدائها الاقتصادي، وإلى إعادة صياغة المشهد الاقتصادي بصورة أكثر من إصلاحية. فالمعايير تتغير، والمعطيات كذلك، والاستحقاقات تظهر على السطح، لا يمكن بأي حال من الأحوال، القفز فوقها، أو تجنبها. لقد تجاوزت ثاتشر في عملية التغيير كل الحدود والخطوط والمبادىء، بما في ذلك بعض المبادىء التي أطلقها المفكر الاسكوتلندي الشهير آدام سميث. فهذا الأخير يرى أن مصلحة الفرد أهم من مصلحة المجتمع. ورغم هذا الخلل الفظيع في الطرح، وجدت ثاتشر أن سميث، كان "معتدلاً"  أكثر من اللازم في مسألة الفرد والمجتمع، لتطرح "نظريتها" الخاصة، التي تستند على ماذا؟ على عدم وجود المجتمع أصلاً!

ومع القوة السياسية التي كانت تتمتع بها في السنوات الأولى لحكمها (ثاتشر طُردت طرداً من زعامة حزبها ورئاسة الوزراء)، فرضت "نظريتها" المشينة، التي لاقت الصدى المطلوب على الجانب الآخر من الأطلسي، لينشأ مايمكن تسميته "حلف ثاتشر-ريجان"، الذي فرض أدبياته الاقتصادية الاجتماعية في بلدين محوريين على الساحة العالمية، لتنتقل عدواه شيئاً فشيئاً إلى بلدان محورية أيضاً. قبل ثاتشر-ريجان، كانت السلعة تبحث عن الإنسان، بعدهما أصبح الإنسان يبحث عن السلعة، وهذه نتيجة طبيعية لإلغاء دور المجتمع ليس فقط في الإنتاج، بل في أخلاقيات السوق. فالسوق التي تسيطر على المجتمع (أو تصنعه)، تكون متجردة من الضمانات والمعايير الأخلاقية. لقد ظل هذا "الحلف" يسوق هذه الأفكار بل ويفرضها بما يملك من قوة سياسية، لتكريس المفهوم المريع "السوق تصنع المجتمع"! وهذا يعني ببساطة أن "السلعة تصنع الإنسان"!!

رسمت ثاتشر (ومعها ريجان) الخطوط الأولى للأزمة الاقتصادية العالمية. فهذه الأزمة انفجرت أساساً بسبب ارتفاع معدلات تحكم السوق في نفسها، لا تحكم المجتمع بها، وهذا موروث ساهمت الحكومات التي أعقبت ثاتشر في الحفاظ عليه، وإن بإسلوب أكثر إنسانية وأخلاقية. فحتى جون ميجور الذي خلف ثاتشر مباشرة، والذي يعتبر من أتباعها المخلصين، لم يستطع فور وصوله إلى الحكم، إلا أن يرفع شعاراً كان ضرورياً لبقاء المحافظين في السلطة. الشعار "العودة إلى الأصول". وهذا الشعار، كان بمنزلة اعتذار غير مباشرة عن الأضرار التي ألحقتها ثاتشر في المجتمع، بصرف النظر عن "الأضواء الجميلة" الآتية من السوق. والحقيقة أن هذا الشعار لم يوفر لميجور مساحة زمنية طويلة في الحكم، سواء على الصعيد الحزبي أو الشعبي. لقد هبطت ثاتشر بشعبية حزبها، لدرجة أن رئيس الوزراء الحالي(ديفيد كاميرون)، لم يستطع أن يشكل حكومة محافظة خالصة، فاضطر إلى التحالف مع حزب يتعارض (في الواقع) مع المحافظين في الكثير من المبادىء الرئيسة.

لا يمكن إعفاء ثاتشر من آثام الأزمة الاقتصادية. لقد وضعت "المتفجرات" اللازمة، وانتظرت تشكُل الفتيل شيئاً فشيئاً، إلى أن جاء من يشعله. كما لا يمكن إعفائها من الأزمات الاجتماعية التي تسببت بها، من جراء اقتصاد مادي خالص، بعيد عن أي روح إنسانية. ففي عهدها انفجرت أزمة عقارات فادحة، أدت إلى خسارة أعداد كبيرة من البريطانيين منازلهم إلى الأبد. وفي عهدها ظهرت طبقة اجتماعية، المؤهل الوحيد للمنضمين إليها هو "الفهلوة". وهؤلاء في الواقع كان يؤسسون الأعمال في كل الاتجاهات، ليهربوا لاحقاً في كل الاتجاهات، بعد أن يكونوا قد نهبوا ما تيسر لهم من أموال غيرهم. لقد عانت بريطانيا من طبقة المحتالين في كل شيء. ألا ينبغي أن تكون مفتوحة بدون ضوابط؟! وأن تكون للسوق الكلمة الأولى والأخيرة على المجتمع؟!

كانت مارجريت ثاتشر تقول: "لا يهمني مدى ثرثرة وزرائي، المهم أنهم يقومون بما آمرهم به". لقد ماتت وانتهت ثرثرة وزرائها منذ خروجها من الحكم مجبرة. التاريخ لا يثرثر، إنه يروي الأحداث، وقد روى بالفعل حتى قبل موت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، أن هذه الأخيرة كانت حديدية بقوتها وإرادتها، وفولاذية في معاندة المجتمع. إنها مرحلة بالفعل، لكن آثارها وبعضاً من آثامها ستبقى في الأجواء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق